الاثنين، 30 يناير 2012

نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان للمحمد بن قاسم بن زاكور الفاسي



     نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان للمحمد بن قاسم بن زاكور الفاسي [1]

1- وهي رحلة تختلف عن كل الرحلات التي تحدثنا عنها في السابق. فهي لا تقوم على وصف المشاهد وذكر معالم الطريق. ولا يعمل فيها المؤلف على تسجيل المراحل التي مر منها.
لأننا لا نجد فيها عنت الرحلة وتعب التنقل مما تعود أن يصادفه الراحل في طريقه، فيفيض في الحديث عنه. وإنما هي عمل نلتقي فيه مع المؤلف وهو في مدينة الجزائر يحضر حلقات علمائها، ويجلس إلى درس شيوخها، حتى إذا ما دعا داعي الفراق امتطى ثبج البحر في طريق العودة إلى محل الانطلاق تطوان، ليجلس من جديد إلى شيوخها، ويفوز بإجازاتهم وينتهي العمل إلى هذا الحد.
وباستثناء وصف رحلة العودة، وما اهتز له قلب المشوق من ركوب البحر، واقتحام أهواله، فإننا لا نجد ذكرا مفصلا لما يحكيه لنا أصحاب الرحلات عادة عن مراحل التنقل ووصف الطريق.
وتبعا للمادة العلمية يبقى عمل ابن زاكور هذا ضمن ما نسميه بالرحلة الفهرسية. فيحكي قصد صاحبه في الاستفادة من الشيوخ، ورغبته في الاتصال بهم، جلب إجازتهم العلمية التي تخول له شرعية ما يحمله من رواياتهم ومصنفاتهم و أسانيدهم.
وقد كان ابن زاكور على دراية تامة بما يصنف، وذلك حينما أطلق على عمله هذا اسما يعين به مادته الأساسية في نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان.
2- تتكون هذه الرحلة من قسمين أساسيين هما:
 القسم الأول: الحديث عن مدينة الجزائر، وما حظي به ابن زاكور من لقاء الشيوخ بها وجلب إجازاتهم والاستفادة منها.
وبهذا القسم يفتتح عمل رحلته هاته. فبعد الحمدلة والصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، يتخلص إلى الحديث عن الرحلة في طلب العلم، وأهميتها للراغبين فيه. فهي منة من الله يكسب بها الطالب رقة في طباعه، وعلما غزيرا يأخذه من أهل العلم وأتباعه[2].
وتستقر الرحلة بابن زاكور في مدينة الجزائر بعد ما عانه من وهج القفار، وما قساه من لجج البحار، و به غليل ووجد إلى علمائها، وشوق كبير إلى مجالس دروسها. ومدينة الجزائر جمعت عنصرين من الجمال:
* عنصر الموقع وبهاء العمران. فهي ذات جمال باهر، ومغان نواضر، "ما شئت من حدائق كالنمارق، وقصور، نوع المحاسن عليها مقصور[3]". وهي من بهجتها وموقعها قد غص بها "كل عدو كافر، فلذلك يتربصون بها الدوائر، في الموارد والمصادر، ويرسلون عليها صواعق لم تعهد في الزمن الغابر"[4].
احتضانها لمجموعة من الأئمة والأعلام، "ينجلي بهم الاظلام، وشموس أئمة تنفرج بهم كل غمة، وتفتخر بهم أحبار هذه الأمة"[5]. وقد ازدانت بهم الجزائر، و ألحفت لوجودهم بالبهجة والإشراق، إذ هم "رجال، كالجبال، وأحبار،كالأقمار. طلعوا في بروج سعودها بدورا، ألبسوها رواءا ونورا"[6].
وهكذا يجلس في مدينة الجزائر مدة ستة أشهر للأخذ عن هؤلاء الشيوخ. وهم:
أولا: أبو حفص عمر بن محمد بن عبد المومن المنجلاتي[7]. وقد أدركه ابن زاكور وهو في آخر العمر قد اقترب من الثمانين. غير أنه ما يزال نشيطا في درسه، قائما فيه على مختلف العلوم والفنون.
فهو صدر حركة العلمية آنذاك بالجزائر، إذ أحكم قواعد العلوم، يصول بالأصول ويطول بالجدل والمنطق، وفي السير والأخبار يدور على المدار، "بقية السلف، وبركة الخلف الذي حمى الله به من التلف[8]"، أخذ عن عدد من الشيوخ. منهم سعيد قدورة الجزائري[9]، وعلي عبد الواحد السجلماسي الأنصاري[10]، نزيل الجزائر. وهو عمدته في العلوم. لازمه مدة أربعة عشر عاما.
أخذ عنه ابن زاكور علم الأصول، فقرأ عليه كتابي جمع الجوامع للسبكي، ومختصر ابن الحاجب الأصلي، بإحضار مختلف شروح الكتابين، "فشغف بذلك، وأعجبه لحرصه على العلوم"[11].
وكانت رغبة ابن زاكور قوية في قراءة جمع الجوامع على هذا الشيخ، حتى إنه كان يقلق في بعض الأحيان، مخافة أن يصل وقت السفر، والشيخ بعد لم يختم الكتاب المذكور. وذلك نظرا لما كان يعتري الشيخ من عوارض المنع، فيتأخر عن المجلس.
وتحققت رغبة ابن زاكور بختم الكتاب المذكور بعد أربعة أشهر من القراءة، فأنشد يوم الاختتام بين يدي شيخه يمدحه فيها. مطلعها[12]:
حي على الأنس إن طيف الهموم سرى

وسل نفسك وانهج نهج من صبرا

وقبل أن يغادر ابن زاكور الجزائر في منتصف عام1094، استدعى الإجازة من شيخه هذا، وألح عليه في إنجازها. فكتب له هذا الشيخ إجازة، أوردها بتمامها في ترجمته[13].
ثانيا: محمد بن محمد بن عبد المومن الحسني الجزائري[14]. أحد علماء الجزائر وشيوخها. كانت له سوابق الرحلة إلى المشرق أخذ فيها من علمائه، وأجازوه. وتصدر للتدريس بمدينته، فدرس مختلف العلوم والفنون، غير أن ميزته كانت في المشاركة الأدبية. فكان يقول الشعر، ويكتب النثر، و "توغله في الأدب هو الذي أولاه أعلى الرتب.... إذا سجع كلاما أو رصع بنيانه، وأسكر بسلافة إبداعه أدهانا"[15].
حضر عنده ابن زاكور في درس بعض المصنفات، فقرأ عليه "صدرا من كتاب جمع الجوامع للتاج السبكي، وبعضا من تلخيص المفتاح من باب الفصل والوصل، وأرجوزة ابن التلمساني في الفرائض. ووقعت المشاركة بيننا وبينه في المسائل العلمية والنوادر الأدبية[16]...
وكان لهذا الشيخ مزيد علاقة بابن زاكور، فكان يعطف عليه لغربته، ويواليه من خيره وإحسانه. وكان من جملة ما أعطاه سفرا يضم ديواني أبي تمام، وأبي الطيب المتنبي.
وقبل أن يغادر ابن زاكور مدينة الجزائر، أتحفه شيخه هذا بإجازة عامة مطلقة، أورد نصها بالتمام في ترجمته. وضمنها منظومة في المهم من العقائد والعبادات أطلق له الإذن في روايتها وشرحها، هو أو من يرى نفسه أهلا لها. وهي منظومة على غرار منظومة المرشد المعين لعبد الواحد بن عاشر...
ثالثا: محمد بن سعيد بن قدورة الجزائري[17]. وهو ولد العالم الشهير أبي عثمان سعيد قدورة، صاحب شرح سلم الأخضري في المنطق. وكان لعلماء المغرب اتصال به وأخذ عنه.
ويتصدر ابنه هذا بعد أبيه، فيدرس الفقه والحديث. كما اعتمد في رواية الحديث وتصحيح آثاره. وقد انتهت إليه الفتوى في بلده.
حضر ابن زاكور في مجلسه، وسمع من إملائه جملة من الجامع الصغير، وأبوابا من صحيح البخاري "سماع دراية وتحقيق رواية". وأعجب بدرسه وفصاحته. وطلب منه الإجازة، وألح عليه فيها بقصيدة بعد أن قرب موعد سفره. فكتب له نص إجازة عامة مطلقة أوائل رجب عام 1094 وأوردها بتمامها في ترجمته[18].
رابعا: أبو عبد الله محمد بن خليفة[19] (ت 1094). شيخ أخذ عن علماء عصره، وأكثر من الرحلة بحثا عن الشيوخ والاستفادة، فدخل مصر وغيرها من بلاد المشرق. وتصدر للتدريس بمدينة الجزائر. وتميز بين شيوخها بإتقان علم البلاغة.
اتصل به ابن زاكور واستفاد منه في درس التفسير. وكانت رغبة ابن زاكور قوية في أن يقرأ عليه علوم البلاغة، ولا سيما بعد أن علم أن شيخه هذا أخذ بمصر على الشيخ ياسين العليمي الحمصي[20] مختصر السعد على التلخيص، "قراءة تدقيق وبحث وتمحيص[21]". فخاطب شيخه في ذلك وواعده الشيخ بتلبية مطلبه عند ختم تفسير القرآن. غير أجل الشيخ لم يمهله فتوفي عن قريب في شهر ربيع الثاني عام1094.
ولم تكن حسرة ابن زاكور كحسرته على هذا الشيخ دون تحقيق مطلبه في الإجازة أولا، وقد استدعاها منه. وفي إقرائه علوم البلاغة ثانيا، وقد أخذها الشيخ عن أحد أساطين هذا العلم في المشرق.
ولعل شوق ابن زاكور إلى درس شيخه البلاغي كان الحافز إليه ما اشتهر عنه المغاربة من حاشية ياسين العليمي على مختصر السعد، وما عرف عن ياسين من دقيق المناقشة، والتعقب، وحسن التخريج في حواشيه النحوية. ولا شك أن ابن زاكور كان يطمع أن يقع من شيخه هذا على الأسلوب الذي يتعامل به الشيخ ياسين في درس مختصر السعد.
وبترجمة هذا الشيخ الرابع تنتهي رحلة ابن زاكور إلى الجزائر، ومعها ينتهي القسم الأول من كتاب أزاهر البستان.
ورغم أن شرط الكتاب يقوم على إيراد إجازات من اتصل بهم المؤلف في الجزائر، وبعدها تطوان، فإن ما ذكره من إجازات علماء الجزائر يخص فقط شيوخه الثلاثة الأول.
وقد فطن ابن زاكور إلى إقحام ترجمة شيخه الرابع دون أن يكون له من نص إجازة حتى يكون على شرط الكتاب. فعين عند مقدمة الكتاب ما حال دون إنجاز الإجازة منه بقوله: "وممن لقيته بها، ووجهت خطابي إليه، إلا أنه اخترته المنية إثر سقوطي عليه، وقبل أن يجيزني فيما لديه..."[22] وقد اختصر ابن زاكور ذكر شيوخه بمدينة الجزائر في هؤلاء الأربعة، لأنهم –في نظره- أصل، وغيرهم فرع. فهم سادات الساحة العلمية آنذاك في الجزائر.
ولم تعدم المدينة مجالس غيرهم من الشيوخ الآخرين. ولعل ضيق المدة التي قضاها ابن زاكور بهذه المدينة لم تسمح له بزيارة مجالس بعضهم، أو الجلوس إليهم مدة كافية ليدرجهم ضمن شيوخه.

القسم الثاني: الحديث عن تطوان وما حازه المؤلف من إجازات
                          شيوخها:
ويفتتح هذا القسم بالحديث عن رحلة رجوعه من الجزائر إلى تطوان، ووصف المركب الذي أقله، وصراعه مع البحر وأهواله. ويثير فيه موقف عتو البحر وغضبه وعلو أمواجه ومعاندته.
ذكر رحلته في الذهاب بحرا نحو مدينة الجزائر، وما حدث له قبلها من لقاء بعض علماء تطوان وأدبائها عند حلوله بها[23].
خامسا: ويستأثر الشيخ أبو الحسن على بركة[24] باهتمام ابن زاكور دون بقية شيوخ تطوان فيكون شيخه الخامس في الترتيب ممن ضمهم كتاب نشر أزاهر البستان.
ويطول حديث ابن زاكور عن شيخه هذا، فيجلب من شعره ومنظوماته ومساءلاته الكتابية لأشياخه وأجوبتهم، الشيء الكثير.
ولا ينسى ابن زاكور وهو يتحدث عن علم شيخه علي بركة أن يذكر بموقعه من الحركة العلمية بتطوان. فهو "الذي أصار تربها تبرا، لما طلع في سماء معارفها بدرا، وأعاد حصباءها درا، لما فاض في أرجائها بحرا. ولولا ما أولاها من المحاسن، ما عذب ماؤها آسن. فبجماله تذكر، وبروائه تحمد وتشكر"[25].
والواقع أن ذكر تطوان من بين المراكز العلمية في المغرب لا يبدأ في العد إلا مع الشيخ علي بركة. فهو شيخ الجيل الذي قامت معه حركة العلم والأدب في تطوان. وللشيخ على بركة رحلة أيام الطلب إلى فاس، جلس فيها إلى الشيوخ وقرأ واستفاد.
وتصدر علي بركة بعد عودته لتطوان للتدريس والتأليف، فأدار في مجلسه درس مختلف العلوم، فقصده غير واحد من علماء المغرب وأدبائه كابن الطيب العلمي، ومحمد بن عبد السلام البناني، وغيرهما. وتبادل مع علماء عصره مكاتبات وإجازات ومساجلات أدبية. وحضر عنده ابن زاكور في شرح جمع الجوامع للجلال المحلي، وشرح ألفية ابن مالك، ومختصر خليل والتحفة لابن عاصم. كما جلس إليه في قراءة صحيح البخاري وغيره من المصنفات والعلوم[26].
وحين قربت عودة ابن زاكور إلى فاس كتب له شيخه إجازة مطولة، سمى فيها شيوخه[27]، وما قرأ عليهم. وبنص هذه الأجازة يستوفي ابن زاكور رحلته، وذكر شيوخه الخمسة الذين أجازوه في الجزائر وتطوان.
3- وكتاب نشر أزاهر البستان رغم صغر حجمه يبقى معلمة واضحة بين مختلف النصوص الكتابية التي عرفها العصر الإسماعيلي. وذلك بما يضمه من عناصر تجعله في مقدمة النصوص التي تعكس الحركة الأدبية في هذا العصر. فهو:
أ- يلتقي مع صنف الفهارس فيما يضمه من مادة فهرسية تتجلى في:
1- نصوص الإجازات التي خص بها الشيوخ المذكورين في الكتاب مؤلفه ابن زاكور. وهي نصوص – رغم أدبيتها كنص أدبي، ونمط من أنماط الأساليب الكتابية – تكشف دور الإجازة وأهميتها كنص أدبي و أهميتها في الاتصال العلمي بين الشيخ والطالب، والسلف والخلف. فشرعية الأخذ بهذه العلوم والتصرف فيها بالرواية والإقراء أو غيرهما، لا يتم إلا بعد أن يأذن الشيخ بذلك. ولا يأذن الشيخ في الغالب إلا بعد أن يكتمل أخذ الطالب فيها بالجلوس إلى شيخه والاستفادة من تجربته، كما فعل هو –أي الشيخ- مع شيوخه. فهي تسلسل واستمرار للتجربة العلمية، وحائل دون تسبب على العلم ونصوصه.
ولذلك كانت أهمية الإجازة فائقة عند علماء هذا العصر وغيرهم. يحرصون على الأخذ بها ويتسابقون على مجالس الدرس للفوز بها، ويتهالكون على الرحلة – رغم عنتها وتعبها- للقاء الشيوخ وأخذ إجازاتهم، وحمل ما عندهم من روايات وعلوم ومصنفات، مما انفردوا بحمله أو اشتهروا بصحته وتوثيقه.
وقد بلغ الحرص بالعلماء إلى أنهم كانوا يحتفظون بنصوص إجازات أشياخهم بخطوطهم الأصلية، لتكون الشهادة بذلك على صدق اتصالهم بكاتبيها، واكتساب الشرعية في الحمل عنهم، وربط أسباب العلم بأسبابهم.
ومن هنا تبدو القيمة العلمية للرحلة التي قام بها ابن زاكور لمدينتي الجزائر وتطوان.
وتتأكد لنا قيمة الحرص والرغبة عند ابن زاكور في الحصول على إجازات أشياخ هذين المدينتين.
ونلمس زيادة الحرص عنده على نص الإجازات التي تخصه، ومحاولة توثيقها، فيما عمد إليه في ذكر نص بعض الأجازات بالتبعية والتي كانت من نصيب أحد شيوخه. فبعد العودة من رحلته إلى فاس، يعثر عند شيخه محمد بن أحمد الكماد القسنطيني[28] وعلى إجازة أبي الحسن علي الشبراملسي المصري[29] للشيخ محمد بن عبد المومن الحسني الجزائري، فيعمد إلى إيراد نصا كاملا في كتابه نشر أزاهر البستان عقب نص الإجازة التي خصه بها شيخه محمد بن هبد المومن المذكور[30].
وقد كان على ابن زاكور أن يضيف إلى كتابه نصوص إجازات أخرى بالتبعية، يخص شيخه علي بركة التطواني. فضمن نص الإجازة التي كتبها علي بركة لابن زاكور[31]، وردت إجازات الأشياخ: عبد القادر الفاسي، وولده محمد بن عبد القادر الفاسي، وأبي سالم العياشي. وهي كلها إجازات تخص شيخه على بركة.
وأعتقد أن عدم إقدام ابن زاكور على إدراج هذه الإجازات ضمن مواد كتابه نشر أزاهر البستان، جاء إما لاستفاضة الشقة بالشيخ علي وشهرته العلمية، وإما الانتشار الخبر في الأوساط العلمية التي ينتمي إليها ابن زاكور، بأخذ علي بركة حقيقة عن شيوخه الذين سماهم في الإجازة، وإما لشهرة هذه الإجازات آنذاك وتداول نصوصها بين كثير من علماء الفترة.
2- تصوير الجو العلمي وما يجري من درس في حلقات الشيوخ، من مادة وعلوم ومصنفات. ورغم تباعد الحلقات العلمية التي يمثلها شيوخ نشر أزاهر البستان، فإن توحد المقررات العلمية، والمصنفات التي تقوم بها، تبقى السمة المميزة لحركة الدرس العلمي في هذه المناطق.
فالتفسير والحديث والفقه والأصول والتوحيد والنحو والبلاغة والمنطق، هي مواد التكوين الأساسية. وكتب: الجامع الصحيح للبخاري، وجمع الجوامع للسبكي، ومختصر خليل، وتحفة ابن عاصم وألفية ابن مالك، وتلخيص المقتاح للقزويني وشروح السعد عليه، والمختصر المنطقي للسنوسي، والجمل للخونجي، والسلم للأخضري، والكبرى، والصغرى للسنوسي و .... مع شروح هذه الصفات المختلفة، هي المقررات التي تهيئ الرصيد المعرفي للطالب في هذه الفترة.
ولا يختلف كتاب نشر أزهار البستان عن أية فهرسة في التحدث عن الشيوخ وطريقة التدريس.
فالشيخ عمر المانجلاتي في درسه "إذا حدث أو أملى، فما أبدع وما أحلى. وغن استطرد في درسه حكاية، لتنميق رواية، كان ذلك أعذب وأسوغ، من ندامة الظبي الألثغ"[32].
والشيخ محمد بن سعيد قدورة يعتمد عليه في تصحيح أسانيد الأخبار " إلى فصاحة ولسن، جرى بهما في ميدان الإبداع طلق الرسن، وحلاوة وطلاوة، ألان بهما قلب ذي قساوة، وعبارة، عليها رونق ونضارة، ولسان خلوب، يقود عصابات القلوب... سمعت من إملائه في مجلسه الخطير جملة وافية من الجامع الصغير، وأبوابا من صحيح البخاري، يحمد مواردها المدلج والساري، سماع دراية، وتحقيق ورواية. فرأيت من ظرفه ولطفه ما سحر وبهر، وتنزهت من فهمه وحفظه في جنة ونهر... "[33].
3- تثبيت بعض الأعراف التعليمية، مما كان يجري في مجالس الدرس عند ختم الكتاب المقروء، في الاحتفال بهذا الختم، والتنويه بالشيخ وحلقته، والإشادة بعلمه، وقيام طلبته بين يديه لإنشاد قصائدهم في مدحه.
وهي عادة درج عليها طلبة المغرب للاحتفال بختم الكتاب، وإقامة حلقة للإنشاد الشعري يجري فيها مدح الشيخ، ووصف مؤهلاته العلمية، وإبراز مزيته في تدريس الكتاب المقروء.
ويكون احتفال الختم هذا فرصة يتسابق فيها الطلبة لإبداء استعدادهم الأدبي، ومحاولة تجربتهم الممارسة الشعرية. ويكون للشعراء مناسبة يتنافسون فيها بتجويد قصائدهم حتى تفوز بالاستحسان[34]. وقد بلغ من الاحتفال بحفلة الختم والاهتمام بما يلقى فيها من شعر، أن كانت بعض القصائد الجيدة توكل إلى منشدين مختصين، يتقنون حسن النغم وإجادة الإنشاد. فيقومون بإنشادها –تكريما للشيخ- في جو حافل يحضره الطلبة والأشراف والعوام[35].
وقد صادف ابن زاكور عند كونه بالجزائر ختم كتابين في مجلس شيوخه.
الأول: ختم كتاب جمع الجوامع في حلقة شيخه أبي حفص المانجلاتي، وذلك "يوم السبت الرابع من جمادى الأولى من شهور سنة أربع وتسعين وألف". فقام في مجلس الختم وبين يدي شيخه، وأنشد قصيدة أشاد فيها بالشيخ، وطرزها ببعض حلاه. أولها[36]:
من يبلغ الأهل أني بعد بينهــم
وقد ظفرت بما قد كنت آملــه
ما أحسن البين إذ كانت إساءته
بقية السلف الماضي ونخبتــه


جالست بدر هدى بالشمس معتجـزا
لما قضت منيتي من نوره وطــرا
تفضي إلى مثل مصباح الدجا عمرا
لكن محاسنه أزرت بمن غبـــرا

الثاني: ختم منظومة إبراهيم التلمساني في الفرائض على شيخه ابن عبد المومن الحسني الجزائري، فمدحه بقصيد قام به يوم الختم، ذهب من الإبداع في كل بريد، ونظم من حلاه كل فريد، وقطع من دعاه كل وريد". وأوله[37]:

البحـر قد أبدى سنا نضريــه


فهامـت الأعيـن فـي بهجتـــه

ومنها في التخلص إلى المدح:
أمسيت صبـا بالجزائـــر لا
لولا ابن عبد المومن المرتضى


أعدم شجـوا ذبـت فـي لفحتــه
قضى فـؤادي مـن لظـى لوعتـه 

ومن هذه الأعراف ما يرسم تلك العلاقة الطيبة التي تجمع بين الشيخ وتلميذه. وهي علاقة يراعى فيها الشيخ ظروف الطالب ورغبته في قراءة مؤلف معين.
وبيدي ابن زاكور مثل هذه الرغبة عند كونه بالجزائر، مع شيخه ابن خليفة. في قراءة تلخيص المفتاح عليه. " ولما شنف سمعي بما شنف، واشرأب عزمي إلى قراءة ذلك الكتاب عليه وتشوف، وسلوت بذلك عن مغازلة كل مهفهف أهيف. فخاطبته راغبا في ذلك بما نصه[38].
مــا للبنيـــان خليفـــة
بيـــن لنـــا مقتضـــاه
بقيـــت فـــذا مفيـــدا
يـا بحـر علـم طمـى فــي


إلا رضــى ابـــن خليفـــة
يـــا ربــــه وحليفــــه
غــر المعانـــي الشريفـــة
بــرود حلـــم كثيفـــــه"



وذيلها بما نصه: "..... يرغب كاتبه..... أن تتحفوه برقبكم.... يقرأ عليكم فيه مختصر سعد الدين التفتزاني  على تلخيص مفتاح البيان والبديع والمعاني[39].
وقد واعده شيخه بذلك لولا أجله الذي أسرع به.
4- تصوير جانب من جوانب الاتصال الثقافي بين المغرب وبعض حواضر العالم الإسلامي. وهو جانب يأتي في وقت كان المغرب قد عاد وبقوة تلك الصلات الثقافية التي كانت تربطه بمجالس العلم في المشرق. فكثرت الرحلة من علماء المغرب للأخذ عن شيوخ تونس ومصر والشام والحجاز. ويسجل العديد من هؤلاء العلماء ذكريات الرحلة، وما استفادوه خلالها من لقاء الشيوخ والحمل عليهم، وما استجلبوه معهم عند العودة من علوم ومصنفات.
وتأتي رحلة ابن زاكور العلمية لتسجل حدثا جديدا في تاريخ الاتصال بحاضرة الجزائر، وربط الصلات الثقافية مع علمائها. ولطالما غاب ذكر الجزائر في هذه السياق، وفي أكثر فهارس ورحلات مغاربة القرنين العاشر والحادي عشر. فلم تكن حاضرة الجزائر من قبل مغرية بالرحلة إليها، لوجود حاضرتي تلمسان في غربها، وتونس في شرقها، وقد تركزت فيهما الحركة العلمية، فكانتا مقصد الرحلة من علماء المغرب، وكانتا أكثر تأثيرا في ساحته الثقافية، لتوافد كثير من علمائها على المغرب، وبالأخص في القرن العاشر[40].
ولا نسجل تبادلا ثقافيا واضحا بين حواضر المغرب ومدينة الجزائر، إلا من القرن الحادي عشر، مع الشيخ أبي عثمان سعيد قدورة الجزائري، وقد أخذ عنه طلبة المغرب، ومع أبي الحسن علي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي نزيل الجزائر. وقد استقر بها في المرحلة الأخيرة من حياته، حيث دفع فيها حركة الدرس، وأيقظ النشاط العلمي بها.
 ورغم أن حاضرة مدينة فاس قد عرفت استقرار بعض العلماء الجزائريين   مثل محمد بن عبد الكريم الجزائري[41]، وابن الكماد القسمطيني، فإن واقع الاستفادة من مجالس الحاضرة الجزائرية واللقاء بشيوخ العلم بها، والحضور في حلقات تدريس علمائها، والتعرف على ما يجري في دروسهم من علوم ومصنفات، واستجلاب نصوص إجازات يكتبها هؤلاء العلماء، هو حدث جديد تنفرد به رحلة ابن زاكور.
أضف إلى ذلك ما حازه علماؤها من مدح وثناء من خلال القصائد الشعرية التي أنشأها ابن زاكور، وأساليب الخطاب التي أجراها معهم. كل هذا يعكس جو الالتقاء الثقافي بين المغرب وحاضرة الجزائر، مما يمثله نص كتاب نشر أزاهر البستان.
ب- وهو كتاب رحلة متميزة بوقائعها وخط السير فيها. فهي تختلف عن الرحلات التي تعودناها في التراث الأدبي في المغرب، مما يكون القصد فيها الانطلاق خارج الحواضر المغربية، الحجازية منها، وغيرها.
فأكثر الرحلات المغربية التي بين أيدينا، يتخذ أصحابها طريقة السير في البر[42]. وتتعدد فيها المراحل من موقع إلى آخر. أما رحلة ابن زاكور فتتم بحرا، ولا تتعدد المراحل فيها. فهي خط واحد يربط المسافة بين تطوان ومدينة الجزائر. وتكون مطية ابن زاكور فيها المركب الأسود الكبير.
ومنذ القرن الثامن لم يعد لرحلة البحر ذكر عند المغاربة –إلا في حدود ضيقة- حيث كان مرسى المنكب، وألمرية بالأندلس منطلق الراغبين في الرحلة اتجاه المشرق[43].
وإذا كانت مخاطر رحلة البر فيما يصادفه الركب من مغير أو لص أو قلة ماء أو تعب راحلة، فإن مخاطر رحلة البحر وما يفاجئ به من هيجان واضطراب، أو في ظهور مركب من مراكب القرصان.
وقد سجل ابن زاكور بأسلوبه الفني لقطات فنية لأهوال رحلة البحر، مما صادفه المركب أثناء رحلته في الذهاب والإياب[44].
وتبقى رحلة ابن زاكور نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان، رحلة مميزة بين رحلات هذا العصر. سواء بوقائعها و أحداثها الخاصة وصياغة ابن زاكور لها بطريقته الأدبية، أو بما احتوت عليه من نصوص ومواد علمية، قامت على إيراد نص إجازات الأشياخ، أو في أسلوب الكتابة الأدبية الرائعة التي تأنق ابن زاكور في صناعتها وصياغتها، ليكون ذلك الأنموذج الأقرب للنثر الفني عند ابن زاكور، بعد غياب ديوانه النثري الذي جمع فيه رسائله وخطبه.
وتظل قيمة هذه الرحلة في مجال الأدب واضحة بما تحتفظ به من أعمال الشعر و أساليب المراجعات والمخاطبات التي تبادلها ابن زاكور مع كثير من أدباء عصره.


[1]- نشر أزاهر البستان: 2.
[2]- نشر أزاهر البستان: 2.
[3]- نشر أزاهر البستان: 2.
[4]- نشر أزاهر البستان: 3 – وترجمته في: تعريف الخلف 2/304 نقلا عن نشر أزاهر البستان.
[5]- نشر أزاهر البستان: 4.
[6]- توفي عام 1066 – ترجمته في: النشر 2/82 – تعريف الخلف 1/66.
[7]- توفي 1054 – ترجمته في: تعريف الخلف1/73 والمراجع التي يحيل عليها.
[8]- نشر أزاهر البستان: 10.
[9]- نشر أزاهر البستان: 4.
[10]- نشر أزاهر البستان: 9.
[11]- نشر أزاهر البستان: 13 – ترجمته في: رحلة الرافعي: 24 شرح أرجوزة الحلفاوي للجامعي 20 – التحفة المرضية: 301 – تعريف الخلف 2/432 وكانت وفاته عام:1101.
[12]- نشر أزاهر البستان: 13.
[13]- نشر أزاهر البستان: 23 وهي فقرة مأخوذة من نص الإجازة التي كتبها له شيخه.
[14]- نشر أزاهر البستان: 37 – توفي عام 1098 – ترجمته في: رحلة الرافعي: 25 – النشر 2/335 –  تعريف الخلف 2/390.
[15]- راجع نصها في: نشر أزاهر البستان: 40.
[16]- ترجمته في: نشر أزاهر البستان: 40 – تعريف الخلف 2/391.
[17]- توفي عام 1066 -  تقدمت الإحالة على مظان ترجمته.
[18]- نشر أزاهر البستان: 42.
[19]- نشر أزاهر البستان: 40.
[20]- راجع نشر أزاهر البستان: 46-75.
[21]- توفي عام 1120 – راجع نشر أزاهر البستان: 49 -65 – و .....غيرها – وقد تقدمت الإحالة على مظان الشيخ علي بركة.
[22]- نشر أزاهر البستان: 56.
[23]- راجع نشر أزاهر البستان:78 – والحديث مقتطف من نص إجازة علي بركة لابن زاكور.
[24]- راجع نشر أزهار البستان:76 وما بعدها. وقد عرف ابن زاكور بعد الانتهاء من نص الإجازة ببعض    الشيوخ الذين وردت أسماؤهم فيها، لأنهم ممن شارك شيخه علي بركة في الأخذ عنهم.
[25]- نشر أزاهر البستان: 31 – تقدمت الإحالة على مظان ترجمته.
[26]- راجع نشر أزاهر البستان: 31 – توفي الشبراملسي عام 1087 – ترجمته في: اقتفاء الأثر: 163 والمراجع المذكورة بالهامش (رسالة جامعية مرقونة).
[27]- راجع النص الكامل لهذه الإجازة في: نشر أزاهر البستان: 32.
[28]- راجع نص الإجازة في: نشر أزهار البستان: 76 وما بعدها.
[29]- نشر أزاهر البستان: 4.
[30]- نشر أزاهر البستان: 38.
2- راجع الأنيس المطرب: 293 – وقد تقدم الحديث عن هذا في الباب الأول من هذا البحث.
[32]- راجع سنا المهتدى: 220 ب.
[33]- راجع النص الكامل في: نشر أزاهر البستان: 4 وما بعدها.
[34]- نشر أزاهر البستان: 14 – والقصيدة بكاملها في: المنتخب من شعر ابن زاكور: 27.
[35]- نشر أزاهر البستان: 42.
[36]- نشر أزاهر البستان: 42.
[37]- يمثل رجال أحمد المنجور المذكورين في فهرسته مجموعة من علماء الحاضرتين المذكورتين ممن استقر بهم المقام في المغرب خلال القرن العاشر.
[38]- توفي 1102 – ترجمته في: تشر المثاني 3/23.
[39]- من ذلك رحلة ابن مليح المسماة أنس الساري والسارب...، ورحلة أبي سالم العياشي. ورحلة أحمد ابن ناصر. و... غيرها.
[40]- يذكر في هذا رحلة ابن رشيد الشبتي، ورحلة أبي البقاء خالد البلوي، وغيرها.
[41]-  راجع نشر أزاهر البستان: 46 وما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق