الثلاثاء، 31 يناير 2012

رحلات العلامة عبد الله بن العباس الجراري





مقاربة دراسية لرحلات

عبد الله الجراري

1934- 1956

للدكتور عبد المجيد بنجيلالي
مطبعة بني يزناسن

منشورات النادي الجراري – 21 –

1421هـ - 2001م


بسم الله الرحمن الرحيم



من بين الأنماط الكتابية التي عرفها الأدب العربي في المغرب، يتميز فن الرحلة بخصوصيات تمس مضامينه وأشكاله وأساليبه، على نحو مكتمل ناضج تجليه أسماء غدت معالم يشار بها وإليها عند التأريخ لهذا الفن، أو حتى مجرد التحدث عنه ؛ سواء على الصعيد العربي الإسلامي، أو على المستوى العالمي، من أمثال ابن بطوطة والعبدري وابن رشيد والعياشي والناصري، ومن إليهم من الذين أنتجوا رحلات أرسوا بها للكتابة في هذا النمط من التعبير تقاليد ترسخت على امتداد العصور.

وإذا كانت هذه الرحلات قد تنوعت حسب وجهتها والدافع إليها، ما بين حجازية وسفارية وعلمية وسياحية وغيرها، فإن ما ألف منها في سياق أداء فريضة الحج وما كان يقتضيه الطريق إلى البقاع المقدسة من مراحل، يكاد يشكل أعلى نسبة. والسبب كامن في الشوق الدائم إلى تحقيق هذه الأمنية، واغتنام بعد المسافة للتوقف في أقطار غالباً ما كان المغاربة يودون المرور بها ومشاهدتها، إما للزيارة والتبرك كالقدس الشريف، أو للإطلاع والارتواء العلمي كبلاد الكنانة ؛ مع كل ما يصاحب هذه الغاية أو تلك من ذكر للمواقع والآثار، ووصف لأوضاع الثقافة، وتعريف بالعلماء والأدباء وما يكون معهم من لقاء وتبادل الأخذ والعطاء ؛ ومع كل ما ينبثق عنها كذلك من أحوال النفس، معاناة ومقاساة، أو ارتياحاً واطمئنانا.

وعلى الرغم من أن الحديث عن فن الرحلة غالباً ما ينصرف إلى ما دُون فيه متصلاً بالخارج، للسبب المشار إليه، فإن ما كتب فيه مرتبطاً بالداخل لا يقل أهمية، إن لم تكن جدواه أكثر، لما يقدمه من مادة غنية قد لا يعثر عليها أو على معظمها في غيره.

وقد وقع إقبال كبير على تحرير الرحلات الداخلية في المرحلة الحديثة، لا سيما بدءاً من هذا القرن وعلى مدى نصفه الأول، وفق ما تثبت النصوص التي ما زالت في بعضها مخطوطة في خزائن عامة أو حبيسة مكتبات أصحابها لم تر النور بعد. وتكفي الإشارة منها إلى ما كتب أحمد الكردودي وأحمد سكيرج وعبد الرحمن بن زيدان والمختار السوسي ومربيه ربه ومحمد بن عبد الله الغلاوي وعبد الله الجراري الذي يمثل إنتاجه نسبة عالية من بين الرحلات الحديثة، إذ ألف ثمان رحلات على مدى الفترة الممتدة من 1934 إلى 1956 ؛ وهي حسب تأريخ تأليفها كالآتي، وإن كانت آخرتها زمناً تخص سفراً إلى القطر الليبي الشقيق:

1 – عشرة أيام في مراكش

2 – نزهة الاقتباس من خمسة أيام في فاس (أو: نتيجة الاقتباس ...)

3 – قرة العيون من سبعة أيام في مكناسة الزيتون وجارتها زرهون

4 – الرحلة السطاتية (أو السكيرجية)

5 – جولة في وجدة

6 – الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية

7 – رحلتي الصيفية

8 – ملخص الرحلة الليبية (أو : موجز الرحلة الليبية)

وهي زاخرة جميعها بالمعطيات الفكرية والأدبية المرتبطة بالبيئة المشاهدة وتاريخها، والنابعة من الواقع الذي كانت عليه يومئذ، ومن كان يشغله من شخصيات بارزة في ميادين العلم والتعليم والوطنية وغيرها مما كان يلفت نظر الكاتب وهو يلتقط بدقة ويدون، في انفعال بما يرى وتجاوب مع من يلقى، وفي حرص على توجيه ذلك كله وتكييفه مع ما يعتمل في أعماقه من مشاعر جهادية وأحاسيس نضالية هي وليدة رأيه الثابت وموقفه الصامد وسعيه الحثيث للم شتات الذات حتى تستطيع النهـوض وتقدر على المقاومة.

ونظراً للأهمية التي لهذه الرحلات، فإن الوالد كثيراً ما كان يفكر في نشرها مجموعة أو مفردة، لولا أن الأجل وافاه ونقله إلى جوار ربه. ولا أخفي أني عقدت العزم مراراً بعد وفاته رحمه الله على طبعها في إطار مشروع "منشورات النادي الجراري"، ولكني كنت أتريث، معتبراً أن الحاجة ماسة إلى إصدارها محققة، نظراً لما يملأها من أعلام وإشارات مختلفة قد يصعب على القارئ إدراكها إن لم توضح له على نحو علمي صحيح.

وقد ظل الأمر كذلك أملاً يراود، إلى أن قيض الله لإنجازه الباحث المتمكن الأستاذ عبد المجيد بن الجيلالي الذي ما كاد يحرز دبلوم الدراسات العليا حتى أبدى تعلقاً بنصوص تلك الرحلات، في افتتان بها وإعجاب دفعاه إلى اختيارها موضوعاً لأطروحة الدكتوراه.

وما كان لي أن أتردد في قبول الإشراف عليه في تهييئها، وقد خبرته من قبل في مرحلة "تكوين المكونين"، ثم وهو يحضر رسالته التي نال بها درجة دبلوم الدراسات العليا، والتي أدارها حول "القضايا الفكرية والأدبية واللغوية في الأدب المغربي الحديث من خلال المقالة بدءاً من 1912 إلى حدود 1930"، وكنت أشعر بسعادة وأنا أشرف على إنجازها ؛ لما يتحلى به من رغبة في التحصيل، وإدراك للذة العلم، وقدرة على بذل الجهد الذي يتطلبه البحث في أناة وصبر وتطلع إلى المزيد، مع تواضع جم وتمسك بالقيم الثقافية والسلوكية اللازمة.

بهذا وغيره مما يتمتع به من مواهب ومؤهلات، تسنى له أن يحقق تلك النصوص، ويجتاز الصعوبات التي تثيرها، دون ملل ولا كلال، وبتوفيق وسداد حالفاه في كل ما تصدى له. ولم يكتف بذلك، ولكنه زاد فوضع دراسة مقاربة كانت وحدها كافية لمنحه الشهادة المرجوة.

وحتى لا يتضخم العمل ويأخذ أبعاداً تتعدى ما هو مطلوب في هذه المرحلة الجامعية، فقد ارتأى ألا يضم إلى هذه المقاربة إلا نصين اثنين، هما:

1 – عشرة أيام في مراكش

2 – الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية

ونظراً لأن العمل، سواء في إطاره الكامل الذي هيأه الباحث، أو على الشكل الذي قدمه في الأطروحة، يتسم بشيء غير قليل من الاتساع في المادة، من حيث النوع والحجم، فقد أخضعه لمشروع مجزأ، يستهله بنشر المقاربة ؛ وهي التي يتضمنها هذا الكتاب القيم الذي أسعد بتقديمه، على أن يتبعه إن شاء الله بأسفار يفردها لمتن الرحلات. وإنه لمشروع جليل يستحق عليه الصديق العزيز الأستاذ الدكتور عبد المجيد بن الجيلالي أخلص عبارات التنويه والتقدير، مشفوعة بأصدق الدعاء له بالمزيد من الإنتاج في هذا المجال من التخصص، بعد أن شق طريقه الوعر وانقاد له ما صعب من مسالكه.

وبالله العون والتوفيق.

الرباط في 5 صفر 1420هـ

الموافـق 20 مايو 1999م


الرحلة السطاتية

أوالسكيرجية

للعلامة المرحوم عبد الله الجراري
تحقيق

الدكتور مصطفى الجوهري
منشورات النادي الجراري

رقم 32

الطبعة الأولى - الرباط - يونيو 2005م




بسم الله الرحمن الرحيم


تُعتبر "الرحلة" من بين الأنماط الكتابية التي بَرَّز فيها المغاربة، وكان لهم بها شغف كبير، كما كان لهم فيها نصيب وافر ومتميز. ولعل مردَّ ذلك بالأساس إلى موقع المغرب في أقصى غرب العالم العربي والإسلامي، وما نتج عن هذا الموقع من بُعد عن الأراضي المقدسة، والحاجة - لأداء فريضة الحج - إلى وقت ومشقة واستعداد، وتخطيط لمناطق التوقف بقصد الاستراحة والاستفادة وإشباع الرغبة في الاطلاع.

ومن ثَم، كانت الرحلات الحجازية في طليعة ما دوَّن العلماء والأدباء الذين تسنى لهم القيام بهذه الشعيرة، مع كل ما يسبقها أو يلحقها من زيارة تطول أو تقصر لبعض الحواضر، ولا سيما للقاهرة حيث جامع الأزهر وما كان يشدهم إليه من حركة علمية مزدهرة، كانوا يتوقون إلى الوقوف عليها والتعرف إلى القائمين عليها من شيوخ غالباً ما كانوا يُجرون معهم مناقشات علمية ويتبادلون الإجازات.

وقد كانت مناسبات أخرى - غير الحج - تتيح للمغاربة أن يرحلوا، إما للسفارة أو التجارة أو السياحة أو غيرها من الأهداف التي أفرزت تدوين رحلات عديدة، كانت في بابها ذات أهمية أغنت الكتابة في هذا الفن.

على أن اهتمام علماء المغرب وأدبائه بالسفر وما يحث عليه من حب الاستطلاع، لم يكن يقتصر على ما هو خارج الوطن، ولكن كان يغريهم للقيام بزيارات داخلية لم تكن تخلو من مقاصد، تكاد تكون - في بعضها - هي نفسها التي كانوا يحققونها في أسفارهم الخارجية. وكانت لهم إلى ذلك دوافع كثيرة، قد يكون من أهمها ما لمدن المغرب وأقاليمه من سمات متميزة، سواء على مستوى الطبيعة أو التاريخ أو الحضارة والثقافة، وما يمثل ذلك كله من معالم وأعلام.

*** *** ***

من هنا كانت العناية التي أولاها والدنا رحمه الله لهذا النوع من الرحلة، مدفوعاً إليه بجملة عوامل، لا أشك في أن من بينها - إن لم يكن على رأسها - إدراكه المبكر، وهو المهتم بتاريخ المغرب وثقافته، أنه لا إمكان لمعرفة حقيقية بذلك، إلا إذا تسنى الوقوف على ما تزخر به جميع مناطق المغرب وحواضره التي كان له فيها أصدقاء عديدون، كان يسعد بالتنقل لزيارتهم، أو باستقبالهم والاحتفاء بهم في منزله بالرباط. يضاف إلى ذلك شغفه بالسفر الذي كانت تسمح به العطل المدرسية، إثر التحاقه بالتعليم الرسمي، مدرساً في مختلف أسلاكه، ثم بعد أن أصبح مفتشاً للتعليم العربي الحر، وكذا تعليم البنات في عموم المغرب.

في هذا السياق، كتب - طيب الله ثراه - سبع رحلات هي التي أقام عليها الزميل الفاضل الأستاذ الدكتور عبد المجيد بنجيلالي أطروحته الجيدة، التي هيأها بإشرافي لنيل دكتوراه الدولة، والتي نشرها بعنوان: "مقاربة دراسية لرحلات عبد الله الجراري"، مُلحِقاً بها تحقيق نصين منها، هما: "عشرة أيام في مراكش"، و "الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية". وقد طَبع الأول منهما، وهو بصدد طبع الآخر.

ونظراً لأهمية موضوع الرحلات الداخلية على العموم، والجرارية منها على الخصوص، فقد سعى "النادي الجراري" بتعاون مع كلية آداب جامعة محمد الخامس بالرباط (أكدال) في يناير 2003م، إلى عقد لقاء علمي مَثّل الحلقة الرابعة من "ندوة عبد الله الجراري" لتدارس "الرحلات المغربية الداخلية 1912-1956م". ويرجع فضل تنظيمه الناجح إلى الصديقين العزيزين الأستاذ الدكتور محمد احميدة والأستاذ الدكتور مصطفى الجوهري.

وقد أسفر هذا اللقاء الذي شارك فيه أساتذة مهتمون بالموضوع، عن نصوص غير قليلة لمؤلفين كانت الحاجة ماسة إلى نفض الغبار عما خلفوا من تراث رحلي خصيب، كما أتاح تدقيق البحث وتعميقه في الرحلات الجرارية.

*** *** ***

واستكمالاً لهذا المشروع العلمي الذي لا تخفى أهميته، وجّه الزميل الكريم الأستاذ الدكتور مصطفى الجوهري عنايته لإحدى تلكم الرحـلات. وهي - كما يدل عليها عنوانها - تتناول سفر المؤلف إلى مدينة سطات، وما كان له مع قاضيها المرحوم العلامة الأديب أحمد سكيرج من جلسات ضمَّت أعلاماً وأعياناً دارت بينهم أحاديث ومناقشات متنوعة، كان المؤلف حريصاً على تدوينها وتسجيل متعلقاتها، وما كان يغمرها من أجواء أخوية صادقة، نابعة من فيوض الشخصية السكيرجية الفذة.

ولم يكن بِدعاً أن يتحقق مثل هذا اللقاء في مدينة كسطَّات، فهي عاصمة إقليم الشاوية الغني بفلاحته وماشيته ورجاله كذلك. وكان يُعيَّن لتدبير شؤونها وتحمّل المسؤولية فيها موظفون مثقفون، من أمثال الفقهاء أحمد سكيرج والصديق الفاسي في قضائها، ومحمد بوعشرين في قضاء "أولاد سعيد" بناحيتها ؛ والأديبين مولاي العربي العلوي وعبد الرحمن الفاسي في باشويتها ؛ تغمدهم الله جميعا بواسع رحمته.

وعلى الرغم من صغر سني يوم كان والدي يأخذني معه في بعض الزيارات التي قام بها لتك المدينة بعد رحلته المدونة، فإني أحتفظ بغير قليل من الذكريات الجميلة عن بعض هذه الشخصيات، ولا سيما عن المرحومِين سكيرج ثم العلوي والصديق الفاسي. وأخص الأول منهم، لِما كان يتسم به من رقة ولطافة وعذوبة حديث، إضافة إلى ما كان يعرب عنه من ترحيب فائق، وما كان يبديه من اهتمام بي والسؤال عني وعن أختي هند وسائر إخوتي، وعن تعليمي الذي كان ما يزال في مرحلته الأولية، ودعوتي للجلوس إلى جانبه، سواء في منزله أو أثناء ممارسة عمله في المحكمة التي كانت بجواره، وحتى في بيتنا حين كان يحل ضيفاً على الوالد الذي كان ينتهز مناسبة حضوره ليجمعه بتلاميذه وأصدقائه ونخبة من علماء العُدوتين.

*** *** ***

أما عن هذه "الرحلة السطاتية"، فأشهد أن صعوبات كثيرة تكتنف تحقيق نصها - على صغر حجمه - لما يتضمنه من معطيات متنوعة، سواء فيما يتصل بالأسماء الواردة فيه أو بالقضايا المثارة في ثناياه، وغير هذه وتلك من الجزئيات التي تتطلب الكثير من التنقيب والتدقيق، لإلقاء الضوء عليها بالشرح والتوضيح.

وما كان للباحث المحقق السيد الجوهري أن يتغلب على هذه الصعوبات، لولا كِفايته وخبرته وتأنيه وحرصه على إجادة كل عمل ينجزه. وقد ساعده على ذلك تخصصه في دراسة التراث الجراري وصاحِبِه، على نحو ما يكشفه البحث القيم الذي نشره عن "عبد الله بن العباس الجراري الأديب" بعد أن نال به تحت إشرافي دبلوم الدراسات العليا، وكذا الأطروحة الجيدة التي أحرز بها درجة دكتوراه الدولة، بإشراف الأستاذ الصديق الدكتور حسن جلاّب. وفيها تناول: "المذكرات في الأدب المغربي: هذه مذكراتي لعبد الله الجراري - دراسة وتحقيق". وما إخاله إلا مُعدها للطبع في القريب إن شاء الله.

وتجدر الإشارة إلى أنه بحكم هذا التخصص المتميز، كان له فضل تنسيق الندوة المشار إليها عن "الرحلات المغربية الداخلية" وتهييئها للنشر، وكذا تنسيق الكتاب الذي أصدرته جمعية رباط الفتح بعنوان: "الوطني المجاهد العلامة عبد الله الجراري: واجهات وطنية متعددة" ؛ وذلك في الذكرى التي تحييها كل عام تخليداً لأحداث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، والتي تنظم بمناسبتها ندوة عن أحد أعلام الرباط الذين كان لهم دور بارز في الجهاد ومقاومة الاستعمار. وكانت الندوة قد عقدت يوم 20 فبراير 1999م.

لهذا وغيره، أود أن أعرب عن كبير اعتزازي وفائق سعادتي بكتابة تقديم - ولو محدود - لهذه الرحلة السطاتية، شاكراً للأخ العزيز الأستاذ الدكتور مصطفى الجوهري كريم عنايته بها، ومهنئاً إياه على إصدارها بتحقيق علمي دقيق، مع الدعاء الصادق له بدوام التوفيق واطراد السداد.

والله من وراء القصد.


الرباط في 24 ربيع الأول 1426هـ

الموافق 3 مايو 2005م

            -25-

من نصوص الرحلات المغربية




عشرة أيام في مراكش

للعلامة المرحوم عبد الله الجراري
تحقيق

الدكتور عبد المجيد بنجيلالي
مطبعة بني ازناسن - سلا

الطبعة الأولى 2002


بسم الله الرحمن الرحيم


تُعتبر "الرحلة" من بين أَهمِّ الفنون والأجناس الكتابية التي عُنِيَ بها الأدب العربي في مختلف عهوده ومراحله. ومَرَدُّ هذه العناية إلى الرغبة في تدوين المشاهد وتسجيل اللقاآت، والكشف عن المشاعر النابعة من تجربة السفر وما قد يرتبط بها من نافع مفيد أو ممتع لذيذ أو طريف عجيب ؛ إضافة إلى ما يتيحه كل ذلك من تعبير قد لا يخلو من مسحة جمالية بديعة.

ويزيد في هذه الرغبة ما يعرفه الإطار الجغرافي للرحلات، من اتساع يشمل الأقطار العربية والإسلامية الشاسعة، وحتى غيرها من الأقاليم الأجنبية التي كانت للعرب والمسلمين معها روابط وعلاقات، تعاونية سلمية، أو نفورية صِدامية. كُلها بلدان تزخر بمظاهر حضارية متنوعة، وظواهر ثقافية متعددة، تُغري المسافر بالتقاطها والتحدث عنها، والإخبار بها فيما يَحكي أو يَكتب.

ولأمرٍ ما، برز المغاربة في هذا النمط من التعبير، وكان لهم فيه نصيب وافر رُبَّما بسبب بُعدهم عن المشرق، ووجود موقع بلَدهم في أقصى المغرب ؛ وكذا بسبب شوقهم الكبير والدائم لزيارة البقاع المقدسة وأداء فريضة الحج، والتوقف في طريق الذهاب أو العودة ببعض العواصم الشهيرة، كالقاهرة ودمشق والقدس الشريف، للصلاة في مساجدها، والتبرُّك بمزاراتها، والاتصال بعلمائها، ولا سيما الذين يكون صيتهم قد ذاع، أو تكون مؤلفاتهم متداولة.

إلا أن الأسفار المغربية لم تكن مقصورة على هذا التوجه الذي أنتج "رحلات حجازية" كثيرة، ولكن تجاوزته إلى مجالات أخرى، كالزيارة أو السفارة إلى بلدان إسلامية أو غيرها.

وإذا كان فن الرحلة قد ارتبط في الغالب بهذا البُعد الخارجي الذي وقع الاهتمام به، فإن بُعداً آخرَ لم يُلتفت إليه إلا نادراً، كان كذلك حافزاً للكتابة في هذا الفن وإغنائه، وهو المتصل بالإطار الداخلي الذي انبثقت عنه رحلات كان يقوم بها علماء وأدباء، يَصِفُون فيها تنقلاتهم وجولاتهم في المدن المغربية، بكل ما يذكرونه أو يرسمونه عنها، سواء على النطاق الجغرافي والتاريخي، أو العلمي والأدبي، أو الاقتصادي والاجتماعي، أو غير ذلك مما يكون شدَّ كاتب الرحلة وارتبط باهتمامه وما له فيها من غايات.

ويكاد الوالد رحمه الله - وهو معروف بسعة ثقافته ووفرة إنتاجه - أن يكون أكثر معاصريه عناية بهذا المجال، إذ ألف فيه سبعة نصوص، تبدو لأول وهلة أنها متفرقة بحكم الزمان والمكان، ولكنها في الحقيقة، بتناسقها وتكاملها وما ترمي إليه من أهداف، تشكل عملاً واحداً يمكن أن نطلق عليه: "الرحلة المغربية"(1) ؛ وتتضمن:

1 - عشرة أيام في مراكش (1353هـ-1934م)

2 - نزهة الاقتباس من خمسة أيام في فاس (1354هـ-1936م)

3 - قرة العيون من سبعة أيام في مكناسة الزيتون وجارتها زرهون

           (1355هـ-1936م)

4 - الرحلة السطاتية (1357-58هـ-1939م)

5 - جولة في وجدة (1358هـ-1939م)

6 - الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية (1362هـ-1943م)

7 - رحلتي الصيفية (1368هـ-1949م)

وهي جميعاً تكتسي أهمية قصوى، لانتماء فترة تحريرها إلى عهد الحماية الذي كان فيه الحصـار الاستعمـاري يُطوِّق أرجـاء المغـرب ويَخنق فكر أبنائه، خاصة منهم العاملين في حقل التعليم والوطنية ؛ وهو الحقل الذي كان يتحرك فيه كاتب هذه الرحلات جزاه الله وأثابه، ويَعتبره مجال جهاد كبير.

ولهذه الأهمية، تناول الباحث القدير، الأستاذ الصديق الدكتور عبد المجيد بن الجيلالي هذه النصوص، وأنجز عنها أطروحة قيمة سعدتُ بالإشراف عليها، وتقديم القسم الدراسي الذي نشر منها بعنوان: "مقاربة دراسية لرحلات عبد الله الجراري 1934-1956م". وهي تضم - في الأصل إلى جانب هذا القسم - نص رحلتين اثنتين هما:

1 - عشرة أيام في مراكش

2 - الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية

وإن هذا السِّفر الجليل الذي أعتز بتقديمه للمعتنين وعموم القراء، يمثل جزءاً ستتلوه إن شاء الله أجزاء أخرى يحقق فيها الأستاذ الباحث بقية نصوص "الرحلة الجرارية". وهو منصب على "عشرة أيام في مراكش"، كان المؤلف المرحوم قد قضاها في هذه المدينة الساحرة الجميلة خلال شهر جمادى الثانية عام 1353هـ (الموافق 1934م).

وأشهد أن العمل في هذا النص لم يكن سهلاً ولا مُيسَّراً، لإيراده أسماء أعلام ومواقع، ولاحتوائه معلومات مختلفة، ولإثارته قضايا كثيرة كانت بِنتَ وقتها. وهي مصاعب ما كان يمكن تجاوزها والتغلب عليها، لولا حِنكة المحقق وتمرسُّه وصبره وأناته، وشغفه بالبحث الدقيق مهما يكن شاقا وشائكاً.

لذا، فإن سعادة كبيرة تغمرني بتقديم هذه الرحلة منشورة، آملاً أن تكون إضافة إلى ما أنتجه المغاربة في هذا الميدان، وأن يفيد منها المعتنون بفكر المغرب وأدبه وسائر متعلقاته، إبان فترة ما زالت كثير من جوانبها مجهولة أو غامضة.

أما الباحث المحقق الأخ الكريم السيد عبد المجيد بن الجيلالي، فله مني بالغ التنويه وفائق التقدير، مشفوعين بخالص الدعاء أن يديم الله عليه معهود عونه وتوفيقه.


الرباط في 23 جمادى الأولى 1423هـ

الموافق 3 غشت 2002م



الرحلة الربيعية

إلى عاصمة فاس العلمية
للعلامة المرحوم

عبد الله الجراري
تحقيق

الدكتور عبد المجيد بنجيلالي

بسم الله الرحمن الرحيم


ما زال الزميل الكريم والأخ الفاضل الأستاذ الدكتور عبد المجيد بنجيلالي يواصل إصدار أجزاء من العمل العلمي القيم الذي أنجزه أطروحة للدكتوراه متعلقاً برحلات والدي رحمه الله، موفياً بالوعد الذي أخذه على نفسه، والذي التزم فيه بنشر نصوص هذه الرحلات.

فبعد أن أصدر القسم الخاص بالدراسة في سفر جليل بعنوان: "مقاربة دراسية لرحلات عبد الله الجراري 1934-1956"، تابعه بإخراج "عشرة أيام في مراكش"، وتعتبر أول ما حرره المؤلف المنعم في هذا المجال من الكتابة.

وها هو يوالي جهوده المثمرة الحميدة ويضع بين أيدي القراء الكرام نصاً آخر يتصل بما دونه الرحالة المغفور له عن سفرة قام بها إلى مدينة فاس الفيحاء ابتداء من يوم الخميس 18 ربيع الأول 1362هـ موافق 25 مارس 1943م وجعل لها عنواناً هو: "الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية".

وسيراً على النهج الذي تبرزه مختلف الرحلات الجرارية، فإن النص "الفاسي" جاء غنياً بالمشاهد والارتسامات التي كانت لافتة لنظر الكاتب يومئذ، والمغرب يجتاز فترة دقيقة وصعبة من تاريخه ؛ إضافة إلى اللقاآت التي كانت له مع أصدقائه من أعلام هذه المدينة المرموقين، والتي جرت فيها مذاكرات علمية وأدبية هي لا شك من صميم اهتماماتهم وما كان يشغل فكر هذه المرحلة.

وبقدر غنى المادة التي يتضمنها هذا النص - كغيره مما يماثله - كان الإضناء الذي عاناه المحقق الفاضل، وهو يشرح ويعلق في هوامش دقيقة ومستفيضة على مختلف الأسماء والإشارات والقضايا الواردة فيه، وما يثيره مما يقتضيه التوضيح المسعف للقارئ في فهمه وإدراك خفاياه وخباياه.

وإنه لإضناء يدل على الجهد الكبير الذي بذله الأستاذ الدكتور عبد المجيد بنجيلالي في التحقيق المتأني والدرس العميق، على نحو ما هو معهود فيه، مما تجليه سائر بحوثه وكتاباته، وما يقدمه من عروض جادة في الندوات التي يشارك فيها، وكذا محاضراته وإشرافاته الجامعية سواء في داخل المغرب أو خارجه، مما تصل عنه أصداء طيبة واسعة. وهو ما يجعلني لا أتردد في كتابة مقدمة لما يود إصداره من إنتاج.

لذا، فكما سعدت بتحرير كلمة تقديم لأطروحته الجيدة ولنص الرحلة المراكشية، فإني أشعر اليوم بسعادة غامرة تفعمني بتحبير أسطر أَبَى الصديق العزيز الأستاذ الدكتور عبد المجيد بنجيلالي إلا أن يجعلها طالعة هذه الرحلة الفاسية.

فليتقبلها مشفوعة بأخلص عبارات التنويه والتقدير، ومقرونة بأصدق الدعاء أن يديم الله عليه عونه وتوفيقه.


الرباط في 4 جمادى الثانية 1425هـ

الموافق 22 يوليوز 2004م


رحلات العلامة اعبد الله بن العباس الجراري:


عشرة أيام في مراكش ·

    تحقيق الدكتور عبد المجيد بنجلالي )منشورات النادي الجراري رقم 25 – الطبعة الأولى 1423هـ-/2002م·(


-        نزهة الاقتباس من خمسة أيام في فاس(محققة ومطبوعة)

-        قرة العيون من سبعة أيام في مكناسة الزيتون وجارتها زرهون

الرحلة السطاتية .

    تحقيق الدكتور مصطفى الجوهري )منشورات النادي الجراري رقم       – الطبعة الأولى 1425هـ -/2005م·(

-        جولة في وجدة(محققة ومطبوعة)

-        الرحلة الربيعية إلى عاصمة فاس العلمية (حققت وهي بصدد النشر)

-        رحلتي الصيفية

-        ملخص الرحلة الليبية(محققة ومطبوعة)(1956م).




رحلات نجل المؤلف الدكتور عباس الجراري:


نسيم البوسفور )رسالة ـ رحلة ـ من تركيا ، صيف 1968).

- الوفد )رحلة ضمن الوفد الرسمي للحج 1402 هـ/1982 م).

- قمة الغمة )رحلة(.

- ثلاثون يوما في الولايات المتحدة )رحلة 1981).

- أمريكا في الذكرى الأولى لأحداث سبتمبر )رحلة ثانية للولايات المتحدة في سبتمبر 2002 م(.

- لقطات أمريكية )رحلة ثالثة للولايات المتحدة الأمريكية – غشت-سبتمبر 2003 (.







هناك تعليق واحد: