تعريب: د. خالد بن الصغير
|
صـدفة اللـقاء مــع الجـديـــد
رحـلة الصفـار إلـى فرنــــسا
1845-1846
تصميم العرضرحـلة الصفـار إلـى فرنــــسا
1845-1846
تقديم
• السياق التاريخي لرحلة الصفار إلى فرنسا.
• احتلال الجزائر الصدمة الحقيقية.
• صدمة هزيمة "إسلي" سقوط الأقنعة.
• الظروف العامة المحيطة برحلة عبد القادر أعشاش.
• الدواعي المباشرة للرحلة.
• الصفار الفقيه والعدل والكاتب المخزني.
• صدفة اللقاء مع الجديد.
• في الطريق إلى باريس.
• الصفار في باريس: الأنا المنبهرة وسط الحضارة.
• الصفار في المسرح "التياتروا أو الكومزية أو الأوبرا" كما عبر عنه.
• لقاء الصفار مع "الكوازيط" الجرائد.
• اللقاء مع ملك فرنسا.
خلاصات أساسية.
تـقـديـــم:
الرحلة ممارسة إنسانية ضاربة بجدورها عميقا في تواريخ الأمم، يرحل الناس عادة من مكان إلى آخر بحثا عن شيء تعذر وجوده في مكان الإقامة الأصلي، فيكون الانتقال ظرفيا وقد يكون نهائيا، وقد يكون فرديا كما قد يكون جماعيا، والرحلة كما تكون اضطرارية تكون اختيارية، بل قد لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا أن تاريخ الإنسانية هو تاريخ رحلات شعوبها واستقرارها، وما نتج عن هذه الرحلات والإستقرارات من مشاكل وتناقضات.
والرحلة في الإسلام وفضائه الجغرافي أمر وقف الناس على منافعه العديدة، بل واعتبروه المشرع من المستحبات المرغب فيها، فللسفر في الإسلام فوائد سبعة، باعتباره يعرف المسلم على ما أسماه الأستاذ عبد المجيد القدوري "ذات الأنا الثقافية"، حيت الألفة الدينية تصاحب الإختلافات المحلية البسيطة جنبا إلى حنب، فلا "...يشعر فيه المسلم المسافر الحاكي بالغربة ولا بالغرابة، لأنه ينتقل داخل منظومة مألوفة هي: دار الإسلام"، أما الرحلة والسفر إلى خارج المنظومة الإسلامية فقد اعبره المشرع الإسلامي أمر غير مستحب، خوفا على اهتزاز عقيدة المنتسبين له من الأفراد والجماعات، واستثنى الرحلات أو الأسفار التي كان لابد من القيام بها، اعتبارا بمنافعها العديدة على جماعة المسلمين، وعلى القائم بها من المسلمين الأقوياء العقيدة وراسخيها، الذين لا تأثر فيهم تحول الأوضاع الاجتماعية واختلافها عن ما هو موجود في بلاد الإسلام والمسلمين.
والرحلة إلى خارج الفضاء الإسلامي كتأليف، يخلفه الرحالة المسلم لمن يقرأه بعده فيتعظ، وبالتالي لا تكون له حاجة إلى خوض التجربة الغير مأمونة العواقب مرة أخرى، هذا التأليف يشكل "جنسا أدبيا يتسم بالطرافة (...) ويمتاز بجمعه بين الإفادة والإمتاع، فقارئ الرحلة لا يطلع على العالم الذي ينقله المسافر صاحب الرحلة فحسب، بل يتعرف على أفكار وتصورات ورؤى ذلك الذي يحدثه عن موضوع رحلته (...)، وإذا كانت الرحلات التي قام بها المسلمون الأوائل إلى خارج الفضاء الإسلامي تتسم بالرغبة في الاطلاع على أحوال الآخرين، الذين هم أقل شأنا من حضارة العالم الإسلامي – على الأقل في فترات زمنية معينة، وفي تصورات هؤلاء الرحالة – فإن الرحلات اللاحقة اتسمت بالرغبة الشديدة التي أبان عنها بعض من نخبة العالم الإسلامي، المتخلف عن ركب الحضارة المسرع الخطا، وبشهادة أنبائه قبل شهادته الآخرين، فالكافر بلغ مراتب عليا من الرقي الحضاري، وبات يهدد العالم الإسلامي في عقر داره، ولا مندوحة من الاطلاع على أسباب رقيه وقوته، اطلاع لا يكون إلا من المشاهدة الحقيقية.
في هذا الاطار تأتي رحلة "أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار" إلى فرنسا، رفقة موكب باشا تطوان "عبد القادر أعشاش"، تلك البلاد الكافر أهلها، والتي ما عادت بعيدة بعد أن استوطنت جوار المغرب الشرقي، وبالتالي قطعت عن الشعب المغربي المسلم امتداده الطبيعي نحو الشرق، والتي ما عادت ضعيفة بعد أن أضاقت المغاربة الهزيمة المدوية النكراء، فكان لزاما على من يعنيهم الأمر البحث في سر تفوق الفرنسي الواضح، وما السبيل إلى ذلك إلا من الاطلاع على حضارة عن قرب، لقد كان على هذه الرحلة السفارية التي أعقبت انهزام المغرب في معركة "إسلي" أن تجد للسلطان "المولى عبد الرحمان" أجوبة سريعة عن أسئلة كبيرة، من قبيل: أين يكمن سر قوة الفرنسيين؟ كيف تمكنوا من الوصول إلى ذلك المستوى من القوة ؟ كيف استطاعوا قهر الطبيعة وإحكام قبضتهم على مسارها بطرق وأساليب مازالت خافية عنا ؟ كيف يعيش الفرنسيون حياتهم اليومية ؟ وباختصار، ما هو وضع حضارتهم، وما هي أوجه اختلافها عن حضارتها ؟.
مخطوطة الرحلة موجودة بالخزانة الحسنية بالرباط، ويتكون في مجموعة من 139 صفحة، يعود الفضل في إخراجه وتحقيقه إلى الباحثة الأمريكية "سوزان ميلار"، على أن الفضل موصول للأستاذ "محمد المنوني"، الذي كان له فضل إرشاد الباحثة إلى وجود نسخة فريدة من الرحلة بالخزانة الحسنية بالرباط، والأستاذ خالد بن الصغير الذي عرب العمل وشارك في تحقيقه.
وقد لاحظت الباحثة الأمريكية التأثر الكبير للصفار بمن سبقه إلى فرنسا من الرحالة العرب، قائلة، "وقد تأثر محمد الصفار إلى حد كبير بهذا الكتاب [تخليص الإبريز في تلخيص باريز للمصري رفاعة الطهطاوي] شكلا ومضمونا، لكن دون أن يكون مقلد له"، ومما تجدر الإشارة إليه أن كتابة الرحلة تمت بعد عودة الصفار إلى تطوان، بتأن شديد، مستعينا بكل ما كان قد دونه في حينه إبان الرحلة، والتي استغرقت زهاء الثلاثة شهور، تمكن خلالها الصفار من الاطلاع على العديد من جوانب الثقافة الفرنسية، ونقلها بالمثل أحيانا وبكل موضوعية، أحيانا أخرى.
فالقارئ لرحلة الصفار يرى الوصف الموضوعي، ويرى الانبهار الزائد على حده، كما يقف عل التمثل الفاضح للآخر بما تشتهيه نفسية المتمثل، فالصفار ليس سوى واحد من النخبة المغربية الحديثة العهد بالهزيمة، وبالتالي فوصفه لن يحيد عن الانبهار بالآخر في مقابل تقريع الذات إن تقل جلدها عبر العديد من المقارنات، والتحسرات عن الذات الإسلامية المتخلفة عن الآخر بأسباب المدنية والتقدم، فـ"المسبقات الثقافية، الواضحة أحيانا والمستبطنة أحيانا أخرى، فهم الآخر ومحيطه فهما عميقا مجردا وتحجب بالتالي عن المشاهد صور الآخر كما هي في الواقع".
• السياق التاريخي للرحلة الصفار إلى فرنسا
اكتملت مع نهاية القرن 19 صورة أوربا القارة القوية بما وصلت إليه من تقدم في مختلف المشارب الثقافية، أوربا المعتدة بقوتها العسكرية الكبيرة، والمستعدة لمواجهة كل من يقف في وجه طموحاتها الإمبريالية التوسعية، كما اكتملت في نفس الفترة صورة المخزن المغربي العجوز والعاجز عن مواجهة كل هذه الأخطار المحدقة به، فالبلاد المغربية التي كانت تقلق الأوربيين، وترغمهم على شراء ودها، حتى تتمكن أساطيلها من المرور بسلام، باتت في وضع الضعيف الذي يكاد يداري ضعفه الشديد أمام الآخرين الأقوياء، فأوربا دخلت القرن 19 معززة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية والتقنية والثقافية، والفكرية، أما المغرب، ولأسباب تاريخية وبنيوية، لم يعرف قط أي تطور يذكر في مجال الفكر، والاقتصاد، والتنظيم السياسي والإداري، وهذا يدل فيما يدل، على انتهاء زمن الانطواء على النفس، والعيش بعيدا عن فضولية وتدخل الأوربيين في شؤون البلاد قد ولى وباد، ولاسيم بعد 1830.
• احتلال الجزائر الصدمة الحقيقية.
كان أبرز حدث هز جيل محمد الصفار هو الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830 ، فالمغرب الذي لطالما واجه التحديات العسكرية الخارجية، التي كانت تدق شواطئه، وجد نفسه اليوم يواجه عدوا يقاسمه المجال الترابي مباشرة دون فاصل مائي، يجب أن يتم طرد العدو إلى ما ورائه، عدو قد يقطع عنه امتداده الطبيعي في مجال بلاد الإسلام، وقد يمنع عنه التنقل لأداة فريضة الحج، وفي دلك ما لا يتيقه لا المخزن وعلى عامة الناس، لذلك وجد المخزن، ممثلا في السلطان "المولى عبر الرحمان" نفسه مضطرا إلى قبول بيعة سكان تلمسان، على الرغم من المعارضة الأولية التي أبان عنها فقهاء فاس، باعتبار أن بيعة "التلمسانيين" ما تزال معقودة في أعناقهم لصالح السلطة العثمانية، وحتى عندما لم يتوفق المخزن المغربي في مهمته القديمة-الجديدة في التراب الجزائري، وجدناه يؤازر المقاومة الجزائرية الممثلة في الأمير "عبد القادر بن الشيخ محي الدين" مؤازرة قوية، على الرغم من إدراكه أن الأمر لا محالة جالب له من المتاعب مع الفرنسيين ما لا بداية له ولا نهاية، لقد مان المخزن واعيا بضرورة تأمين ما بات يصطلح عليه استراتيجيو الحروب والحدود بـ"العمق الأمني" وفي هذا الصدد يقول الأستاذ علي المحمدي "لم يفت المخزن الوعي بخطورة تمزق المجتمع الجزائري على استمرار السيادة المغربية (...)، سارع المخزن إلى وضع استراتيجية تقوم على تمديد الحدود المغربية الشرقية في التراب الجزائري، قصد تشكيل منطقة عازلة مفتوحة على المغرب" والهدف الأساسي كان محاولة وقف الزحف الفرنسي تجاه المغرب، ويذهب المحمدي إلى اعتبار أن المغرب كان يواجه هذا الزخف بحرْكة جزائرية موالية، يتزعمها جزائري لا تخف على الملاحظ علاقته القوية مع السلطان المغربي على الأقل في بداية المقاومة، واستمرت العلاقة على هذا النحو، السلطان المغربي يعتبر مساعدة عبد القادر الجزائري واحبا شرعيا، والأمير عبد القادر يحفظ للمغاربة صنيعهم، ويجاهد تحت راية سلطانهم، وبالإمكانيات الضعيفة التي كانوا يتوفرون عليها، لكن واقع الحال كان قد أجرى مياه كثيرة تحت جسور هذا التعاون، سرعت بهدمها، وعن هده الوضعية يقول عبد الله العروي " إن كلا من عبد الرحمان وعبد القادر يلجأ إلى منطق الفقه في مواجهة خصمه المسلم، والى منطق السياسة كلما خاطب الفرنسيين ... لكن الفقهاء في فاس وفي القاهرة لا يعتبرون السياسة، كانت فتواهم دائما لصالح عبد القادر دون الالتفات لعواقبها السلبية على العباد والبلاد، في هذه الظروف لم يكن السلطان يستطيع ولا يستطيع كل الظروف التخلي كليا عن المجاهدين الجزائريين فأعلن الحياد رسميا ومع دلك واصل تزويدهم بالسلاح والخيل، حصل ادن اتفاق ضمني بين السلطان وعبد القادر يساعد الأول الثاني في حدود استطاعته دون تورط ويقبل الثاني مبايعة الأول لأن هدا ما يفرضه الشرع الذي يحتمي به".
أمام هذا الحلف الفعال عملت فرنسا بكل الوسائل على تني المغاربة عن الاستمرار في تدعيم الجزائريين، واستخدمت لذلك التهديد تارة، والوعيد تارة أخرى، وكانت المحطة الفاصلة في السياسة الفرنسية تجاه الحلف المغربي الجزائري، هي اعيين الجنران "بيجو" حاكما عاما للجزائر، فقد عقد هذا الجنرال الدموي العزم على القضاء على عبد القادر، ولو تطلب منه الأمر الجواز إلى التراب المغربي، وذلك ما كان بالفعل، ولم تكتفي القوات الفرنسية بالخروقات الحدودية المتكررة، بل عملت على توجيه ضربتين قاسمتين لظهر المغرب في في 6 غشت من سنة 1844، الأولى همت قنبلة طنجة، والثانية همت تدمير الصويرة عن آخرها، ولا يخفى على الملاحظ أهداف فرنسا من هاتين الضربتين المفاجأتين، ففي أسبوع واحد كانت البحرية الفرنسية قد شلت الحركة التجارية في المرسيين الهامين، وبالتالي النأثير على المداخيل الجمركية للبلاد، ناهيك عن الهدف الترهيبي للمغاربة من مغبة مواصلة تدعيم المقاومة الجزائرية، فكانت بداية المتاعب المغربية مع جارته الجديدة، التي كشرت عن أنيابها التوسعية، بأن أكثرت من خروقاتها الترابية للمجال الترابي المغربي، فكان لابد من الحرب.
والرحلة في الإسلام وفضائه الجغرافي أمر وقف الناس على منافعه العديدة، بل واعتبروه المشرع من المستحبات المرغب فيها، فللسفر في الإسلام فوائد سبعة، باعتباره يعرف المسلم على ما أسماه الأستاذ عبد المجيد القدوري "ذات الأنا الثقافية"، حيت الألفة الدينية تصاحب الإختلافات المحلية البسيطة جنبا إلى حنب، فلا "...يشعر فيه المسلم المسافر الحاكي بالغربة ولا بالغرابة، لأنه ينتقل داخل منظومة مألوفة هي: دار الإسلام"، أما الرحلة والسفر إلى خارج المنظومة الإسلامية فقد اعبره المشرع الإسلامي أمر غير مستحب، خوفا على اهتزاز عقيدة المنتسبين له من الأفراد والجماعات، واستثنى الرحلات أو الأسفار التي كان لابد من القيام بها، اعتبارا بمنافعها العديدة على جماعة المسلمين، وعلى القائم بها من المسلمين الأقوياء العقيدة وراسخيها، الذين لا تأثر فيهم تحول الأوضاع الاجتماعية واختلافها عن ما هو موجود في بلاد الإسلام والمسلمين.
والرحلة إلى خارج الفضاء الإسلامي كتأليف، يخلفه الرحالة المسلم لمن يقرأه بعده فيتعظ، وبالتالي لا تكون له حاجة إلى خوض التجربة الغير مأمونة العواقب مرة أخرى، هذا التأليف يشكل "جنسا أدبيا يتسم بالطرافة (...) ويمتاز بجمعه بين الإفادة والإمتاع، فقارئ الرحلة لا يطلع على العالم الذي ينقله المسافر صاحب الرحلة فحسب، بل يتعرف على أفكار وتصورات ورؤى ذلك الذي يحدثه عن موضوع رحلته (...)، وإذا كانت الرحلات التي قام بها المسلمون الأوائل إلى خارج الفضاء الإسلامي تتسم بالرغبة في الاطلاع على أحوال الآخرين، الذين هم أقل شأنا من حضارة العالم الإسلامي – على الأقل في فترات زمنية معينة، وفي تصورات هؤلاء الرحالة – فإن الرحلات اللاحقة اتسمت بالرغبة الشديدة التي أبان عنها بعض من نخبة العالم الإسلامي، المتخلف عن ركب الحضارة المسرع الخطا، وبشهادة أنبائه قبل شهادته الآخرين، فالكافر بلغ مراتب عليا من الرقي الحضاري، وبات يهدد العالم الإسلامي في عقر داره، ولا مندوحة من الاطلاع على أسباب رقيه وقوته، اطلاع لا يكون إلا من المشاهدة الحقيقية.
في هذا الاطار تأتي رحلة "أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار" إلى فرنسا، رفقة موكب باشا تطوان "عبد القادر أعشاش"، تلك البلاد الكافر أهلها، والتي ما عادت بعيدة بعد أن استوطنت جوار المغرب الشرقي، وبالتالي قطعت عن الشعب المغربي المسلم امتداده الطبيعي نحو الشرق، والتي ما عادت ضعيفة بعد أن أضاقت المغاربة الهزيمة المدوية النكراء، فكان لزاما على من يعنيهم الأمر البحث في سر تفوق الفرنسي الواضح، وما السبيل إلى ذلك إلا من الاطلاع على حضارة عن قرب، لقد كان على هذه الرحلة السفارية التي أعقبت انهزام المغرب في معركة "إسلي" أن تجد للسلطان "المولى عبد الرحمان" أجوبة سريعة عن أسئلة كبيرة، من قبيل: أين يكمن سر قوة الفرنسيين؟ كيف تمكنوا من الوصول إلى ذلك المستوى من القوة ؟ كيف استطاعوا قهر الطبيعة وإحكام قبضتهم على مسارها بطرق وأساليب مازالت خافية عنا ؟ كيف يعيش الفرنسيون حياتهم اليومية ؟ وباختصار، ما هو وضع حضارتهم، وما هي أوجه اختلافها عن حضارتها ؟.
مخطوطة الرحلة موجودة بالخزانة الحسنية بالرباط، ويتكون في مجموعة من 139 صفحة، يعود الفضل في إخراجه وتحقيقه إلى الباحثة الأمريكية "سوزان ميلار"، على أن الفضل موصول للأستاذ "محمد المنوني"، الذي كان له فضل إرشاد الباحثة إلى وجود نسخة فريدة من الرحلة بالخزانة الحسنية بالرباط، والأستاذ خالد بن الصغير الذي عرب العمل وشارك في تحقيقه.
وقد لاحظت الباحثة الأمريكية التأثر الكبير للصفار بمن سبقه إلى فرنسا من الرحالة العرب، قائلة، "وقد تأثر محمد الصفار إلى حد كبير بهذا الكتاب [تخليص الإبريز في تلخيص باريز للمصري رفاعة الطهطاوي] شكلا ومضمونا، لكن دون أن يكون مقلد له"، ومما تجدر الإشارة إليه أن كتابة الرحلة تمت بعد عودة الصفار إلى تطوان، بتأن شديد، مستعينا بكل ما كان قد دونه في حينه إبان الرحلة، والتي استغرقت زهاء الثلاثة شهور، تمكن خلالها الصفار من الاطلاع على العديد من جوانب الثقافة الفرنسية، ونقلها بالمثل أحيانا وبكل موضوعية، أحيانا أخرى.
فالقارئ لرحلة الصفار يرى الوصف الموضوعي، ويرى الانبهار الزائد على حده، كما يقف عل التمثل الفاضح للآخر بما تشتهيه نفسية المتمثل، فالصفار ليس سوى واحد من النخبة المغربية الحديثة العهد بالهزيمة، وبالتالي فوصفه لن يحيد عن الانبهار بالآخر في مقابل تقريع الذات إن تقل جلدها عبر العديد من المقارنات، والتحسرات عن الذات الإسلامية المتخلفة عن الآخر بأسباب المدنية والتقدم، فـ"المسبقات الثقافية، الواضحة أحيانا والمستبطنة أحيانا أخرى، فهم الآخر ومحيطه فهما عميقا مجردا وتحجب بالتالي عن المشاهد صور الآخر كما هي في الواقع".
• السياق التاريخي للرحلة الصفار إلى فرنسا
اكتملت مع نهاية القرن 19 صورة أوربا القارة القوية بما وصلت إليه من تقدم في مختلف المشارب الثقافية، أوربا المعتدة بقوتها العسكرية الكبيرة، والمستعدة لمواجهة كل من يقف في وجه طموحاتها الإمبريالية التوسعية، كما اكتملت في نفس الفترة صورة المخزن المغربي العجوز والعاجز عن مواجهة كل هذه الأخطار المحدقة به، فالبلاد المغربية التي كانت تقلق الأوربيين، وترغمهم على شراء ودها، حتى تتمكن أساطيلها من المرور بسلام، باتت في وضع الضعيف الذي يكاد يداري ضعفه الشديد أمام الآخرين الأقوياء، فأوربا دخلت القرن 19 معززة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية والتقنية والثقافية، والفكرية، أما المغرب، ولأسباب تاريخية وبنيوية، لم يعرف قط أي تطور يذكر في مجال الفكر، والاقتصاد، والتنظيم السياسي والإداري، وهذا يدل فيما يدل، على انتهاء زمن الانطواء على النفس، والعيش بعيدا عن فضولية وتدخل الأوربيين في شؤون البلاد قد ولى وباد، ولاسيم بعد 1830.
• احتلال الجزائر الصدمة الحقيقية.
كان أبرز حدث هز جيل محمد الصفار هو الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830 ، فالمغرب الذي لطالما واجه التحديات العسكرية الخارجية، التي كانت تدق شواطئه، وجد نفسه اليوم يواجه عدوا يقاسمه المجال الترابي مباشرة دون فاصل مائي، يجب أن يتم طرد العدو إلى ما ورائه، عدو قد يقطع عنه امتداده الطبيعي في مجال بلاد الإسلام، وقد يمنع عنه التنقل لأداة فريضة الحج، وفي دلك ما لا يتيقه لا المخزن وعلى عامة الناس، لذلك وجد المخزن، ممثلا في السلطان "المولى عبر الرحمان" نفسه مضطرا إلى قبول بيعة سكان تلمسان، على الرغم من المعارضة الأولية التي أبان عنها فقهاء فاس، باعتبار أن بيعة "التلمسانيين" ما تزال معقودة في أعناقهم لصالح السلطة العثمانية، وحتى عندما لم يتوفق المخزن المغربي في مهمته القديمة-الجديدة في التراب الجزائري، وجدناه يؤازر المقاومة الجزائرية الممثلة في الأمير "عبد القادر بن الشيخ محي الدين" مؤازرة قوية، على الرغم من إدراكه أن الأمر لا محالة جالب له من المتاعب مع الفرنسيين ما لا بداية له ولا نهاية، لقد مان المخزن واعيا بضرورة تأمين ما بات يصطلح عليه استراتيجيو الحروب والحدود بـ"العمق الأمني" وفي هذا الصدد يقول الأستاذ علي المحمدي "لم يفت المخزن الوعي بخطورة تمزق المجتمع الجزائري على استمرار السيادة المغربية (...)، سارع المخزن إلى وضع استراتيجية تقوم على تمديد الحدود المغربية الشرقية في التراب الجزائري، قصد تشكيل منطقة عازلة مفتوحة على المغرب" والهدف الأساسي كان محاولة وقف الزحف الفرنسي تجاه المغرب، ويذهب المحمدي إلى اعتبار أن المغرب كان يواجه هذا الزخف بحرْكة جزائرية موالية، يتزعمها جزائري لا تخف على الملاحظ علاقته القوية مع السلطان المغربي على الأقل في بداية المقاومة، واستمرت العلاقة على هذا النحو، السلطان المغربي يعتبر مساعدة عبد القادر الجزائري واحبا شرعيا، والأمير عبد القادر يحفظ للمغاربة صنيعهم، ويجاهد تحت راية سلطانهم، وبالإمكانيات الضعيفة التي كانوا يتوفرون عليها، لكن واقع الحال كان قد أجرى مياه كثيرة تحت جسور هذا التعاون، سرعت بهدمها، وعن هده الوضعية يقول عبد الله العروي " إن كلا من عبد الرحمان وعبد القادر يلجأ إلى منطق الفقه في مواجهة خصمه المسلم، والى منطق السياسة كلما خاطب الفرنسيين ... لكن الفقهاء في فاس وفي القاهرة لا يعتبرون السياسة، كانت فتواهم دائما لصالح عبد القادر دون الالتفات لعواقبها السلبية على العباد والبلاد، في هذه الظروف لم يكن السلطان يستطيع ولا يستطيع كل الظروف التخلي كليا عن المجاهدين الجزائريين فأعلن الحياد رسميا ومع دلك واصل تزويدهم بالسلاح والخيل، حصل ادن اتفاق ضمني بين السلطان وعبد القادر يساعد الأول الثاني في حدود استطاعته دون تورط ويقبل الثاني مبايعة الأول لأن هدا ما يفرضه الشرع الذي يحتمي به".
أمام هذا الحلف الفعال عملت فرنسا بكل الوسائل على تني المغاربة عن الاستمرار في تدعيم الجزائريين، واستخدمت لذلك التهديد تارة، والوعيد تارة أخرى، وكانت المحطة الفاصلة في السياسة الفرنسية تجاه الحلف المغربي الجزائري، هي اعيين الجنران "بيجو" حاكما عاما للجزائر، فقد عقد هذا الجنرال الدموي العزم على القضاء على عبد القادر، ولو تطلب منه الأمر الجواز إلى التراب المغربي، وذلك ما كان بالفعل، ولم تكتفي القوات الفرنسية بالخروقات الحدودية المتكررة، بل عملت على توجيه ضربتين قاسمتين لظهر المغرب في في 6 غشت من سنة 1844، الأولى همت قنبلة طنجة، والثانية همت تدمير الصويرة عن آخرها، ولا يخفى على الملاحظ أهداف فرنسا من هاتين الضربتين المفاجأتين، ففي أسبوع واحد كانت البحرية الفرنسية قد شلت الحركة التجارية في المرسيين الهامين، وبالتالي النأثير على المداخيل الجمركية للبلاد، ناهيك عن الهدف الترهيبي للمغاربة من مغبة مواصلة تدعيم المقاومة الجزائرية، فكانت بداية المتاعب المغربية مع جارته الجديدة، التي كشرت عن أنيابها التوسعية، بأن أكثرت من خروقاتها الترابية للمجال الترابي المغربي، فكان لابد من الحرب.
• صدمة هزيمة "إسلي" سقوط الأقنعة.
وقعت هذه، التي تسمى تجاوزا، المعركة، وهي التي لا تحمل من الاسم شيء، في الرابع عشر من غشت من سنة 1844 بـ"وادي إسلي"، وذلك بعد أن صارت القوات الفرنسية تتقدم في المجال "المشترك" بين المغرب والجزائر، متحججة بدريعة ملاحقة المقاولة الجزائرية، فسيطرت على منطقة "لالة مغنية" واستطاعت إحداث أضرار بمدينة وجدة في الشهر الذي سبق المواجهة العسكرية، كل دلك تم بعد أن اتقفت فرنسا وبريطانيا على كل الأمور صعيرها قبل كبيرها.
بعد سلسة من المناوشات المغربية الفرنسية، أرسل السلطان "عبد الرحمان"، ابنه "المولى محمد"، أو "العقون" كما يحلوا لبعض الجزائريين تسميته، بجيش مكون من حوالي 30.000 "رجل" ليضع حدا للزحف الفرنسي، المتمثل في جيش نظامي ، بكل ما تحمل الكلمة من معاني النظام، قوامه 8000 جندي، تلك المعاني التي ستعطي فعاليتها عندما التقى "الجمعان" في ساحة الوغى، إذ لم يكن أمام الفرنسيين إلا ساعة واحدة، حتى يطلقوا رصاصة الرحمة على أسطورة، باتت قديمة، اسمها الجيش السلطاني، أو الجيش المغربي القوي، ذلك الجيش المنتمي إلى منظومة متعفنة، ينخرها الفساد منذ سالف العصور، أو ما اسماه، فيما بعد، أحد العارفين بخبايا ما يجري ويدور، بداء العطب القديم.
لقد كان الفرنسيون مسلحون بالنظام والانضباط، بنفس درجة تسلحهم بكل ما استجد في عالم الحرب من تقنيات، أما "الجيش" المغربي فكان مسلحا بالغرور الزائد والتعنت المريض، والحشد الفوضوي الكبير، بنفس درجة تسلحهم بما فضل عن الآخرين من خردة معدات آلة الحرب، في غياب كلي لألة الدفية الفعالة في حروب التلاحم، وهكذا تحول من من المفروض أنهم يجاهدون عدوا كافرا، هزيمته مغنما، والثبات أمامه واجب ديني، وحتى الموت بسلاحه شهادة يطلبها عالي الهمم، تحولوا إلى لصوص أخبية وجوعى بطون، والحروب لا تكسب بمثال هؤلاء.
لقد كانت الهزيمة النكراء دليل قاطع على أن النظام والجودة أفضل بكثير من الكثرة، وهو ما يوجد عند العدو، يقول سعيد بنسعيد العلوي، كانت دلالة الصدمة إدن هي أن "الذات" تكتشف أن ما ينقصها من أسباب القوة يوجد عند "الأخر".
• الظروف العامة المحيطة برحلة عبد القادر أعشاش.
بعد هذه هزيمة إسلي المدوية، وما أعقبها من شروط الصلح المجحفة، من خلال اتفاقية "لالة مغنية" في 18 مارس من سنة 1845، وجدت النخبة المغربية نفسها في حيص بيص، بين من ينادي بالجهاد هروبا للأمام، ومن يبحث في نصوصه العتيقة عن تفسيرات لما وقع، هروبا للوراء، وبين هذا وذلك وجدت عناصر من داخل الجهاز المخزني المتهالك، بحثت في المسألة بأدوات العصر، فخلصت إلى تبدل الأحوال، وأن الذي كان بالأمس قويا، ولا يرى في المرآة إلا صورته، بات لزاما عليه البحث عند الآخر عن سر تفوقه، عله يقف عن أسرار ضعفه، بعد كل الوهن الذي اعتراه، وكان لما خلفه الرحالة العرب، وخاصة رحلة المصري "رفاعة الطهطاوي"، كبير الأثر في تنوير من يعنيهم الأمر بضرورة الاطلاع على الكيفية التي وصل بها الفرنسيون إلى هزيمة المغاربة بكل تلك السهولة، وهكذا وجدت رحلة الطهطاوي طريقها إلى خزانة وزير السلطان الصدر الأعظم "محمد بن إدريس"، وأصبحت فكرة تسيير رحلة استكشافية إلى فرنسا أمرا ممكنا، ومن باب معرفة العدو، واتقاء مكره.
• الدواعي المباشرة للرحلة.
محمد بن ادريس هذا هو الصدر الأعظم أيام السلطان "المولى عبد الرحمان"، ولطالما ناصب هذا الوزير الشاعر العداء للفرنسيين، وعمل بكل جهده وشاعريته على تأليب السلطان على الغزاة الكفار، لكن هزيمة "إسلي" غيرت في عقلية كل ذي عقل، فكان بن ادريس أحد هؤلاء، بأن أصبح ينتمي إلى "حزب" الداعيين إلى تحقيق المصالحة مع الفرنسيين، أعداء الأمس القريب، وهكذا تعزز معسكر الداعيين إلى الانفتاح على العدو، الذي ضم إلى جانب "بن ادرسي" كل من النائب السلطاني، وممثله أمام الهيئة الدبلوماسية "بوسلهام علي أزطوط" والدبلوماسي الفرنسي "ليون روش Léon Roches" الذي عمل جاهدا على تمكين دولته من ورقة سياسية رابحة، قال عنها "روش" نفسه، مخاطبا الصدر الأعظم بن ادريس" على الامبراطور أن يقدم لملكنا سلاحا فعالا يمكنه من الصمود أمام الرأي العام لرعيته، والسلاح المطلوب هو السفير"، فالمغرب من وجهة نظر هذا الفرنسي بات مكسور القوة، يصلح لأن يكون تحت تبعية التاج الفرنسي القوي، بالإضافة إلى حاجة الحكومة الفرنسية إلى إقناع رأيها العام بجدوى التضحية بأرواح خيرة من أبنائها، ناهيك عن الميزانيات الكبيرة المصروفة على الحرب في الجزائر، والتي باتت في حاجة إلى مبرر قوي لأوجه صرفها، والسفير المغربي أحسن وسيلة لتبرير كل هذا والقول للفرنسيين بأن قواتهم تحقق التقدم، وكما تخوض الحروب وتنتصر فيها فهي تحسن تحقيق السلام وجلب الصداقات الدولية.
أما الطرف المغربي فقد كان معترضا على أمر السفارة في البداية، ومتحفظا على مسالة التقارب مع الفرنسيين أصلا، وخاصة بعد أن وقع معاهدة لم يكن راضيا على العديد مما جاء فيها معاهدة "لالة مغنية" في 18 مارس 1845، لكن الأيام والشهور، والعزم الكبير الذي أبان عنه "ليون روش" في اقناع المغاربة بالجدوة الكبيرة من أمر السفارة والسفير، بالإضافة إلى رغبة القيميين على الأمور في البلاد في الاطلاع على أحوال البلاد الفرنسية عن قرب من واحد من أبناء دار المخزن الثقاة، يستطيع أن يمثل السلطان ،وينقل له ولحاشيته أسباب الحضارة الفرنسية نقلا أمينا كافيا للإجابة على كل تلك الأسئلة التي خامرت دهن المغاربة عقب الهزيمة المعلومة، كل هذه العوامل عجلت بقبول المغاربة للأمر، بل وتنافس القربيين من السلطان في اقتراح من رأوا الأنسب إلى تحقيق المدار من الرحلة، وتمثيل السلطان أحسن تمثيل.
وهكذا وقع اختيار السلطان على عبد القادر أعشاش، عامله على مدينة "تطوان"، ليكون السفير المعول عليه لفك طلاسيم الثقافة الفرنسية، بعد أن اقترح بن ادريس مرشحه وبوسلهام مرشحه، بتأثير غير مباشر من "ليون روش"، الذي وضع الصفات التي من الواجب أن تتوفر في السفير في رسالةٍ إلى بوسلهام جاء فيها "...أن يكون ذا مظهر خارجي مهيب، متصفا بالذكاء واتقاد الذهن، وأن يكون من ذوي الحسب وانسب، ويحتل مكانة سامية في الدولة"، وعبد القادر أعشاش هذا هو بن محمد أعشاش باشا تطوان القوي، الذي استطاع أن يسدل رداء الأمن على جميع إيالته، حتى بلغ من الأمن في مدته، أن كان النساء يبتن في الجنانات والغراسي وحدهن بدون رجل ولا يخفن إلا الله، على حد تعبير مؤرخ المدينة محمد داوود، توفي محمد أعشاش فخلفه ابنه عبد القادر في الإيالة وهو ابن الثامنة والعشريين، ولم تمض سوى بضعة شهور حتى قلده السلطان أمر السفارة، التي كان والده قد سعى إليها واعدا السلطان بالتكفل بكل مصاريفها، ولعل هذا هو العامل الأساسي الذي جعل السلطان يرجح كفة هذه العائلة الثرية، وفي ذلك يقول الداهية "ليون روش "إن اقتراحه تحمل كل مصاريف السفارة هو الذي جعل قرار السلطان يكون لصالحه".
وعندما كتب السلطان إلى عامله على تطوان عبد القادر أعشاش، يعلمه بأن طلب والده في السفارة قد لاق القبول، ويوصيه بما يتوجب عليه القيام به والاستعداد له، استعرض السلطان بعضا من الصفات الواجب توفرها في السفير "...من النجابة والهمة والمعرفة بالأبهة والقوانين" وأضاف موجها سفيره لمن يجب أن يصحبه في سفره، من العاقلين العارفين بأحوال الأجانب، وخاصة االفقيع العالم بأمر الدين، يقول السلطان "عين من يصحبك في وجهتك من ذوي العقل والمروءة والدين والمعرفة بقوانين الأجناس، ولابد لك من عالم صلاة وقراءة، وما يعرض من جوانب أحبارهم، فإنهم يبحثون المسلمين كثيرا، عموما وخصوصا في أمور الاعتقادات والديانات، لتوجد جامعا لما لابد منه من الأمور"، هذا التأكيد على العالم الفقيه يستبطن تمثل خاصا للآخر في نفسية السلطان، وخاصة الجانب العقدي للآخر، وكأن السلطان باعتباره أميرا للمؤمنين، يحرص على السلامة الروحية لرعاياه حتى خارج البلاد، وهي المهمة التي لم يكن في المدينة من هو أجدر من الفقيه، والعالم، والقاضي، والكاتب المخزني، محمد الصفار صاحب الباشا عبد القادر أعشاش.
• الصفار الفقيه والعدل والكاتب المخزني
هو أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الصفار، الأندلسي الأصل، والتطواني المولد، من أسرة أندلسية نزحت مع من نزح من الأندلس عقب محاكم التفتيش إلى المغرب، لقب والد بالجياني نسبة إلى مدينة « jaén » جايين الأندلسية، تاريخ مولده مجهول ومكانه معلوم، ودالة على المستوى الكادي المتواضع الذي عاشته الأسرة الصفارية.
وعلى غرار مجايليه أخد الصفار تعليمه الأولي في مسقط رأسه، تطوان، ولا تمدنا المصادر التاريخية بكبير معلومات عن الشيوخ الدين تتلمذ الصفار على أيديهم في المدينة، بعد هذه المرحلة اتنقل الصفار إلى فاس حاضرة المغرب العلمية-التعليمية، لتلقي علوم عصره، فاستغرقته الرحلة التعلمية في المدينة أكثر مما تستغرقه عادة لدا أقرانه، لقد مكت الصفار في المدينة زهاء الثماني سنوات يغرف من ينابيع علمها الكثير، فحضر الحلقات الدراسية الرسمية، التي جعلته يتقن علوم الفقه والحديث والنحو والأصول على يد المشاهير من أمثال "عبد الرحمان الحجرتي"، كما حضر تلك الأمسيات التي كانت تعقد خارج القرويين، ويحضرها المتميزون من الطلبة، يتدارسون فيها البلاغة والإنشاء من أجل التحكم في ناصية اللغة العربية، ثم عاد الصفار إلى تطوان وفي جعبته لقب الفقيه، كرمز لأحاطته بعلوم الوقت، تلك الصفة التي مكنته من التحول من مكانة اجتماعية بسيطة إلى أخرى، الأكيد أنها أرفع من الأولى، في مدينة شبه منغلقة كتطوان، تلك المدينة التي كانت تعيش الازدواجية على أكثر من مستوى:
• ازدواجية ثقافية تمظهرت في النازحين الأندلسيين ذوي الأنفة الحادة والتميز الحضاري الواضح، والجبليين البدو ذوي الثقافة الدينية البسيطة والمغرقة في المحافظة على دأب كل من يسكن الأماكن المغلقة طبيعيا.
• ازدواجية اقتصادية نجمت عن الفوارق المعاشية الواضحة بين الأندلسيين والجبليين، فالأوائل استطاعوا أن يحسنوا مستوياهم المعيشية بفضل ما كانوا يتمتعون به دربة على التجارة وعلى امتهان الحرف، في الوقت الذي بقي الأخرون حبيسي ما كانت تمتاز به حياة الجبل من ضيق في العيش.
• ازدواجية دينية ناتجة على انفتاح مارسه الأندلسيون وانغلاق مطبق مارسه الجبليون سواء في الشق الديني السني، أو في الشق الطرقي الذي رسخت الزاوية الدرقاوية، ناهيك عن العنف الاخلاقي السلبي الناتج عن الاتصال المباشر بالمسيحية عن طريق القاعدة المتقدمة لها بالشمال المغربي، أي مدينة سبتة، أو عن طريق المؤثرات الآتية من مدينة طنجة المتواجدة ليس بعيدا عن تطوان.
ومضت حياة الصفار بسيطة في تطوان يمارس وظيفة العدل، ينوب عن القاضي في غيابه، ولا ينسى أن يعطي دروسا نظامية وأخرى تطوعية للراغبين في ذلك في المسجد خلال أوقات انتظار الصلاة، وكا الحدث الأبرز الذي هز حياة الصفار ونقله من طور إلى آرخر، هو التغيير الذي فرضه السلطان على مستوى البنية الإدارية لعملات للدولة، القاضية منها إلزام بشوات المدن وقياد البوادي باتخاذ كتبة محترفين يسهرون على تحرير المراسلات الرسمية مخ الجهاز المخزني المركزي، فما كان من باشا تطوان إلا أن اتخذ من الصفار كاتبا رسميا له، كيف لا هو الفقيه العالم في كل الإيالة، وبذلك لزم الصفار مجلس الباشا محمد أعشاش ومن بعده مجلس ابنه عبد القادر أعشاش، فكان فقيها مستشارا في كل الأمور التي تستشكل على أعشاش من الناحية الشرعية، لكن حبه للتدريس وممارسة العدلية ظل يسكنه حتى بعد أن أصبح ذو مكانة اجتماعية رفيعة.
وبهذه الصفة – الكاتب المخزني والفقيه العالم بأمور الشرع- وقع اختيار عبد القادر أعشاش على الصفار مرافقا له في رحلته إلى بلاد الفرنسيس، امتثالا للأمر السلطاني القاضي بإزامية أن يكون موكب الرحلة مرفقا بفقيه عالما بأمور الدين والشرع، وهكذا كان خين رافق الصفار موكب الباشا أعشاش وسجل كل الأمور التي استرعت انتباهه أتناء الرحلة، وعندما عاد إلى المغرب عكف على استرجاع كل تلك الذكريات واستخراج الأوراق التي سودها في بلاد الكفار، فأعاد تركيب الأحداث في كتاب جامع نزولا عند أمر السلطان المتعطش إلى معرفة ما كان عند الآخر وعاب عند الذات.
على أن حياة الصفار ستنقلب رأسا على عقب، من حياة الدعة والهدوء إلى حياة المكر والدسائس المرتبطة بعيش في كنف السلطان القصوى، وقد ارتبط هذا الانقاب بالباشا أعشاش ثانية، ذلك أن هذا الثري، الذي قدم للسلطان خدمة تمثيله أمام الفرنسيين بميزانية كاملة من ماله، وضعت المؤامرات أمام ألية السلطان الغادرة فاستدرج الباشا الشاب في إحدى الأعياد الدينية إلى القصر السلطاني، وفي باله أن الأمر اعتيادي يتعلق بتقديم هدية العيد، لكن المبيت كان أكبر مما حسبه الحساب، إذ ما أن وطئت أقدامه مجال الحرس السلطاني حتى ألقي عليه القبض، ألقي به إلى غياهب السجن الرطبة، أما محمد الصفار فقد نجى بحسن صنيع القدر، وبركة الزاوية الفاسية، التي "زاوكَ" بضريحها، من السجن، لكنه ظل شبه مسجون بالضريح قرابة الأربعة أشهر، إلى أن تدخل له بعض أصحاب النوايا الحسنة، فألحقي بحاشية السلطان على المستوى المركزي، تكلف بادئ الأمر بتعليم أبناء السلطان وتهذيبهم، وانتهى به الأمر صدرا أعظم في الأيام الأخيرة من حياة السلطان عبد "الرحمان بن هشام"، واحتفظ بمنصبه أيام السلاطين محمد بن عبد الرحمان وخلفه المولى الحسن.
• صـدفـة اللـقـاء مـع الـجـديــد.بعد سلسة من المناوشات المغربية الفرنسية، أرسل السلطان "عبد الرحمان"، ابنه "المولى محمد"، أو "العقون" كما يحلوا لبعض الجزائريين تسميته، بجيش مكون من حوالي 30.000 "رجل" ليضع حدا للزحف الفرنسي، المتمثل في جيش نظامي ، بكل ما تحمل الكلمة من معاني النظام، قوامه 8000 جندي، تلك المعاني التي ستعطي فعاليتها عندما التقى "الجمعان" في ساحة الوغى، إذ لم يكن أمام الفرنسيين إلا ساعة واحدة، حتى يطلقوا رصاصة الرحمة على أسطورة، باتت قديمة، اسمها الجيش السلطاني، أو الجيش المغربي القوي، ذلك الجيش المنتمي إلى منظومة متعفنة، ينخرها الفساد منذ سالف العصور، أو ما اسماه، فيما بعد، أحد العارفين بخبايا ما يجري ويدور، بداء العطب القديم.
لقد كان الفرنسيون مسلحون بالنظام والانضباط، بنفس درجة تسلحهم بكل ما استجد في عالم الحرب من تقنيات، أما "الجيش" المغربي فكان مسلحا بالغرور الزائد والتعنت المريض، والحشد الفوضوي الكبير، بنفس درجة تسلحهم بما فضل عن الآخرين من خردة معدات آلة الحرب، في غياب كلي لألة الدفية الفعالة في حروب التلاحم، وهكذا تحول من من المفروض أنهم يجاهدون عدوا كافرا، هزيمته مغنما، والثبات أمامه واجب ديني، وحتى الموت بسلاحه شهادة يطلبها عالي الهمم، تحولوا إلى لصوص أخبية وجوعى بطون، والحروب لا تكسب بمثال هؤلاء.
لقد كانت الهزيمة النكراء دليل قاطع على أن النظام والجودة أفضل بكثير من الكثرة، وهو ما يوجد عند العدو، يقول سعيد بنسعيد العلوي، كانت دلالة الصدمة إدن هي أن "الذات" تكتشف أن ما ينقصها من أسباب القوة يوجد عند "الأخر".
• الظروف العامة المحيطة برحلة عبد القادر أعشاش.
بعد هذه هزيمة إسلي المدوية، وما أعقبها من شروط الصلح المجحفة، من خلال اتفاقية "لالة مغنية" في 18 مارس من سنة 1845، وجدت النخبة المغربية نفسها في حيص بيص، بين من ينادي بالجهاد هروبا للأمام، ومن يبحث في نصوصه العتيقة عن تفسيرات لما وقع، هروبا للوراء، وبين هذا وذلك وجدت عناصر من داخل الجهاز المخزني المتهالك، بحثت في المسألة بأدوات العصر، فخلصت إلى تبدل الأحوال، وأن الذي كان بالأمس قويا، ولا يرى في المرآة إلا صورته، بات لزاما عليه البحث عند الآخر عن سر تفوقه، عله يقف عن أسرار ضعفه، بعد كل الوهن الذي اعتراه، وكان لما خلفه الرحالة العرب، وخاصة رحلة المصري "رفاعة الطهطاوي"، كبير الأثر في تنوير من يعنيهم الأمر بضرورة الاطلاع على الكيفية التي وصل بها الفرنسيون إلى هزيمة المغاربة بكل تلك السهولة، وهكذا وجدت رحلة الطهطاوي طريقها إلى خزانة وزير السلطان الصدر الأعظم "محمد بن إدريس"، وأصبحت فكرة تسيير رحلة استكشافية إلى فرنسا أمرا ممكنا، ومن باب معرفة العدو، واتقاء مكره.
• الدواعي المباشرة للرحلة.
محمد بن ادريس هذا هو الصدر الأعظم أيام السلطان "المولى عبد الرحمان"، ولطالما ناصب هذا الوزير الشاعر العداء للفرنسيين، وعمل بكل جهده وشاعريته على تأليب السلطان على الغزاة الكفار، لكن هزيمة "إسلي" غيرت في عقلية كل ذي عقل، فكان بن ادريس أحد هؤلاء، بأن أصبح ينتمي إلى "حزب" الداعيين إلى تحقيق المصالحة مع الفرنسيين، أعداء الأمس القريب، وهكذا تعزز معسكر الداعيين إلى الانفتاح على العدو، الذي ضم إلى جانب "بن ادرسي" كل من النائب السلطاني، وممثله أمام الهيئة الدبلوماسية "بوسلهام علي أزطوط" والدبلوماسي الفرنسي "ليون روش Léon Roches" الذي عمل جاهدا على تمكين دولته من ورقة سياسية رابحة، قال عنها "روش" نفسه، مخاطبا الصدر الأعظم بن ادريس" على الامبراطور أن يقدم لملكنا سلاحا فعالا يمكنه من الصمود أمام الرأي العام لرعيته، والسلاح المطلوب هو السفير"، فالمغرب من وجهة نظر هذا الفرنسي بات مكسور القوة، يصلح لأن يكون تحت تبعية التاج الفرنسي القوي، بالإضافة إلى حاجة الحكومة الفرنسية إلى إقناع رأيها العام بجدوى التضحية بأرواح خيرة من أبنائها، ناهيك عن الميزانيات الكبيرة المصروفة على الحرب في الجزائر، والتي باتت في حاجة إلى مبرر قوي لأوجه صرفها، والسفير المغربي أحسن وسيلة لتبرير كل هذا والقول للفرنسيين بأن قواتهم تحقق التقدم، وكما تخوض الحروب وتنتصر فيها فهي تحسن تحقيق السلام وجلب الصداقات الدولية.
أما الطرف المغربي فقد كان معترضا على أمر السفارة في البداية، ومتحفظا على مسالة التقارب مع الفرنسيين أصلا، وخاصة بعد أن وقع معاهدة لم يكن راضيا على العديد مما جاء فيها معاهدة "لالة مغنية" في 18 مارس 1845، لكن الأيام والشهور، والعزم الكبير الذي أبان عنه "ليون روش" في اقناع المغاربة بالجدوة الكبيرة من أمر السفارة والسفير، بالإضافة إلى رغبة القيميين على الأمور في البلاد في الاطلاع على أحوال البلاد الفرنسية عن قرب من واحد من أبناء دار المخزن الثقاة، يستطيع أن يمثل السلطان ،وينقل له ولحاشيته أسباب الحضارة الفرنسية نقلا أمينا كافيا للإجابة على كل تلك الأسئلة التي خامرت دهن المغاربة عقب الهزيمة المعلومة، كل هذه العوامل عجلت بقبول المغاربة للأمر، بل وتنافس القربيين من السلطان في اقتراح من رأوا الأنسب إلى تحقيق المدار من الرحلة، وتمثيل السلطان أحسن تمثيل.
وهكذا وقع اختيار السلطان على عبد القادر أعشاش، عامله على مدينة "تطوان"، ليكون السفير المعول عليه لفك طلاسيم الثقافة الفرنسية، بعد أن اقترح بن ادريس مرشحه وبوسلهام مرشحه، بتأثير غير مباشر من "ليون روش"، الذي وضع الصفات التي من الواجب أن تتوفر في السفير في رسالةٍ إلى بوسلهام جاء فيها "...أن يكون ذا مظهر خارجي مهيب، متصفا بالذكاء واتقاد الذهن، وأن يكون من ذوي الحسب وانسب، ويحتل مكانة سامية في الدولة"، وعبد القادر أعشاش هذا هو بن محمد أعشاش باشا تطوان القوي، الذي استطاع أن يسدل رداء الأمن على جميع إيالته، حتى بلغ من الأمن في مدته، أن كان النساء يبتن في الجنانات والغراسي وحدهن بدون رجل ولا يخفن إلا الله، على حد تعبير مؤرخ المدينة محمد داوود، توفي محمد أعشاش فخلفه ابنه عبد القادر في الإيالة وهو ابن الثامنة والعشريين، ولم تمض سوى بضعة شهور حتى قلده السلطان أمر السفارة، التي كان والده قد سعى إليها واعدا السلطان بالتكفل بكل مصاريفها، ولعل هذا هو العامل الأساسي الذي جعل السلطان يرجح كفة هذه العائلة الثرية، وفي ذلك يقول الداهية "ليون روش "إن اقتراحه تحمل كل مصاريف السفارة هو الذي جعل قرار السلطان يكون لصالحه".
وعندما كتب السلطان إلى عامله على تطوان عبد القادر أعشاش، يعلمه بأن طلب والده في السفارة قد لاق القبول، ويوصيه بما يتوجب عليه القيام به والاستعداد له، استعرض السلطان بعضا من الصفات الواجب توفرها في السفير "...من النجابة والهمة والمعرفة بالأبهة والقوانين" وأضاف موجها سفيره لمن يجب أن يصحبه في سفره، من العاقلين العارفين بأحوال الأجانب، وخاصة االفقيع العالم بأمر الدين، يقول السلطان "عين من يصحبك في وجهتك من ذوي العقل والمروءة والدين والمعرفة بقوانين الأجناس، ولابد لك من عالم صلاة وقراءة، وما يعرض من جوانب أحبارهم، فإنهم يبحثون المسلمين كثيرا، عموما وخصوصا في أمور الاعتقادات والديانات، لتوجد جامعا لما لابد منه من الأمور"، هذا التأكيد على العالم الفقيه يستبطن تمثل خاصا للآخر في نفسية السلطان، وخاصة الجانب العقدي للآخر، وكأن السلطان باعتباره أميرا للمؤمنين، يحرص على السلامة الروحية لرعاياه حتى خارج البلاد، وهي المهمة التي لم يكن في المدينة من هو أجدر من الفقيه، والعالم، والقاضي، والكاتب المخزني، محمد الصفار صاحب الباشا عبد القادر أعشاش.
• الصفار الفقيه والعدل والكاتب المخزني
هو أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الصفار، الأندلسي الأصل، والتطواني المولد، من أسرة أندلسية نزحت مع من نزح من الأندلس عقب محاكم التفتيش إلى المغرب، لقب والد بالجياني نسبة إلى مدينة « jaén » جايين الأندلسية، تاريخ مولده مجهول ومكانه معلوم، ودالة على المستوى الكادي المتواضع الذي عاشته الأسرة الصفارية.
وعلى غرار مجايليه أخد الصفار تعليمه الأولي في مسقط رأسه، تطوان، ولا تمدنا المصادر التاريخية بكبير معلومات عن الشيوخ الدين تتلمذ الصفار على أيديهم في المدينة، بعد هذه المرحلة اتنقل الصفار إلى فاس حاضرة المغرب العلمية-التعليمية، لتلقي علوم عصره، فاستغرقته الرحلة التعلمية في المدينة أكثر مما تستغرقه عادة لدا أقرانه، لقد مكت الصفار في المدينة زهاء الثماني سنوات يغرف من ينابيع علمها الكثير، فحضر الحلقات الدراسية الرسمية، التي جعلته يتقن علوم الفقه والحديث والنحو والأصول على يد المشاهير من أمثال "عبد الرحمان الحجرتي"، كما حضر تلك الأمسيات التي كانت تعقد خارج القرويين، ويحضرها المتميزون من الطلبة، يتدارسون فيها البلاغة والإنشاء من أجل التحكم في ناصية اللغة العربية، ثم عاد الصفار إلى تطوان وفي جعبته لقب الفقيه، كرمز لأحاطته بعلوم الوقت، تلك الصفة التي مكنته من التحول من مكانة اجتماعية بسيطة إلى أخرى، الأكيد أنها أرفع من الأولى، في مدينة شبه منغلقة كتطوان، تلك المدينة التي كانت تعيش الازدواجية على أكثر من مستوى:
• ازدواجية ثقافية تمظهرت في النازحين الأندلسيين ذوي الأنفة الحادة والتميز الحضاري الواضح، والجبليين البدو ذوي الثقافة الدينية البسيطة والمغرقة في المحافظة على دأب كل من يسكن الأماكن المغلقة طبيعيا.
• ازدواجية اقتصادية نجمت عن الفوارق المعاشية الواضحة بين الأندلسيين والجبليين، فالأوائل استطاعوا أن يحسنوا مستوياهم المعيشية بفضل ما كانوا يتمتعون به دربة على التجارة وعلى امتهان الحرف، في الوقت الذي بقي الأخرون حبيسي ما كانت تمتاز به حياة الجبل من ضيق في العيش.
• ازدواجية دينية ناتجة على انفتاح مارسه الأندلسيون وانغلاق مطبق مارسه الجبليون سواء في الشق الديني السني، أو في الشق الطرقي الذي رسخت الزاوية الدرقاوية، ناهيك عن العنف الاخلاقي السلبي الناتج عن الاتصال المباشر بالمسيحية عن طريق القاعدة المتقدمة لها بالشمال المغربي، أي مدينة سبتة، أو عن طريق المؤثرات الآتية من مدينة طنجة المتواجدة ليس بعيدا عن تطوان.
ومضت حياة الصفار بسيطة في تطوان يمارس وظيفة العدل، ينوب عن القاضي في غيابه، ولا ينسى أن يعطي دروسا نظامية وأخرى تطوعية للراغبين في ذلك في المسجد خلال أوقات انتظار الصلاة، وكا الحدث الأبرز الذي هز حياة الصفار ونقله من طور إلى آرخر، هو التغيير الذي فرضه السلطان على مستوى البنية الإدارية لعملات للدولة، القاضية منها إلزام بشوات المدن وقياد البوادي باتخاذ كتبة محترفين يسهرون على تحرير المراسلات الرسمية مخ الجهاز المخزني المركزي، فما كان من باشا تطوان إلا أن اتخذ من الصفار كاتبا رسميا له، كيف لا هو الفقيه العالم في كل الإيالة، وبذلك لزم الصفار مجلس الباشا محمد أعشاش ومن بعده مجلس ابنه عبد القادر أعشاش، فكان فقيها مستشارا في كل الأمور التي تستشكل على أعشاش من الناحية الشرعية، لكن حبه للتدريس وممارسة العدلية ظل يسكنه حتى بعد أن أصبح ذو مكانة اجتماعية رفيعة.
وبهذه الصفة – الكاتب المخزني والفقيه العالم بأمور الشرع- وقع اختيار عبد القادر أعشاش على الصفار مرافقا له في رحلته إلى بلاد الفرنسيس، امتثالا للأمر السلطاني القاضي بإزامية أن يكون موكب الرحلة مرفقا بفقيه عالما بأمور الدين والشرع، وهكذا كان خين رافق الصفار موكب الباشا أعشاش وسجل كل الأمور التي استرعت انتباهه أتناء الرحلة، وعندما عاد إلى المغرب عكف على استرجاع كل تلك الذكريات واستخراج الأوراق التي سودها في بلاد الكفار، فأعاد تركيب الأحداث في كتاب جامع نزولا عند أمر السلطان المتعطش إلى معرفة ما كان عند الآخر وعاب عند الذات.
على أن حياة الصفار ستنقلب رأسا على عقب، من حياة الدعة والهدوء إلى حياة المكر والدسائس المرتبطة بعيش في كنف السلطان القصوى، وقد ارتبط هذا الانقاب بالباشا أعشاش ثانية، ذلك أن هذا الثري، الذي قدم للسلطان خدمة تمثيله أمام الفرنسيين بميزانية كاملة من ماله، وضعت المؤامرات أمام ألية السلطان الغادرة فاستدرج الباشا الشاب في إحدى الأعياد الدينية إلى القصر السلطاني، وفي باله أن الأمر اعتيادي يتعلق بتقديم هدية العيد، لكن المبيت كان أكبر مما حسبه الحساب، إذ ما أن وطئت أقدامه مجال الحرس السلطاني حتى ألقي عليه القبض، ألقي به إلى غياهب السجن الرطبة، أما محمد الصفار فقد نجى بحسن صنيع القدر، وبركة الزاوية الفاسية، التي "زاوكَ" بضريحها، من السجن، لكنه ظل شبه مسجون بالضريح قرابة الأربعة أشهر، إلى أن تدخل له بعض أصحاب النوايا الحسنة، فألحقي بحاشية السلطان على المستوى المركزي، تكلف بادئ الأمر بتعليم أبناء السلطان وتهذيبهم، وانتهى به الأمر صدرا أعظم في الأيام الأخيرة من حياة السلطان عبد "الرحمان بن هشام"، واحتفظ بمنصبه أيام السلاطين محمد بن عبد الرحمان وخلفه المولى الحسن.
بعدما رُتبت الأوضاع خلال سنة من الاستعداد، خرجت سفارة عبد القادر أعشاش، من مدينة تطوان قاصدة فرنسا، على متن المركب الحربي « Le Météore » "المتيور"، في شهر دجنبر من سنة 1845، حيت ركبها السفير ومرافقوه من مدينة طنجة، في وفد تكون إلى جانب الصفار والباشا أعشاش، من صهريه، محمد اللبادي الطاعم في السن، والحاج العربي العطار، الذي يتكلم الإسبانية بعض الفرنسية، بسبب الأصفار التجارية التي سبق له القيام بها، بالإضافة إلى أحمد العياط، الذي كان المسؤول الأول عن قضاء حاجيات السفير، ناهيك عن المخازنية التسعة المرافقين للرحلة.
• في الطريق إلى باريس.
• أول لقاء للصفار مع الجديد كان من خلال المركب التي أقلت الوفد من طنجة إلى فرنسا، تلك المركب التي وصفها الصفار قائلا "وقد كان بعت لنا من نحن متجهون إليه مركبا عظيما من مراكب النار المعروفة بالبابور، قد انتخبه لنا من أحسن ما عنده استجلابا للألفة وحفظا للمودة" وهي في الحقيقة إحدى المراكب التي كانت تستخدم في تمريض الجنود الفرنسيين المحاربين في الجزائر أثناء إعادتهم إلى فرنسا، مركبا عادية صغيرة الحجم، لم ترق القنصل الفرنسي في طنجة، ولا راقته الرتبة العسكرية الصغيرة لرئيسها، ومع ذلك اعتبرها الصفار مركبا عظيمة تليق بالسفارة، لتستمر الرحلة بحرا زهاء الخمسة أياما، حاول الفرنسيون خلالها بكل الوسائل الترويح على المسافرين، لكن الصفار ظل على تحفظه وقلة انشراحه، بحسب ما سجله قائد المركب الملازم الأول "جويفروى"، قلة الانشراح هذه يمكن تفسيرها بالخوف من البحر الذي قد تملك الصفار في الرحلة وخاصة وأنه أورد آليات قرآنية تبجل البحر، واليس بسبب موقف التحفظ الأصيل في الصفار.
• ثاني لقاء للسفارة والصفار مع الجديد من جلال الليلة التي قضوها في مرسى « Golfe des lions » التي قصدتها السفينة للتزود بما تحتاج إليه من الوقود، هنا وجدنا الصفار يعتدل في وصفه لتلك الميناء، فيعتبرها "...مرسى صغيرة لاكنها لإتقان وإحكام صنعتها وحسن مدخلها وبناء شواطئها تلحق أو تفوق الكبيرة، ليس فيها رياح ولا تمويج، فيصير المركب في داخلها كأنه في وسط صهريج" هنا نستشف أن الصفار يعقد مقارنة واضحة مع ما عانته السفينة "الميتور" عندما همت بإركاب وفد الرحلة في طنجة، تلك المرسى الكبيرة التي اضطرت السفينة إلى انتظار أيام عديدة إلى هدأت حركة الأمواج الناتجة عن الرياح القوية التي تعيشها منطقة "البوغاز" على طول السنة، لقد كانت ملاحظات الصفار تقنية دقيقة، تنم عن معرفته السابقة بشؤون الموانئ ولا غرابة باعتباره ابن مدينة ساحلية. كما أن الصفار استطاع أن يفرق بين الحاضرة والبادية في حديثه عن هذه المدينة الصغيرة.
• ثالث لقاء للصفار مع الجديد كان من خلال السفر البري من مرسيلية إلى باريس، والذي أفرد له في الرحلة بابا خاصا، بدأه بلف "اعلم" على الرغم من أن نص الرحلة موج بالأساس إلى حضرة السلطان صاحب الزمان، مع ما يقتديه الأمر من حسن التأدب مع البيان، لكن ما شاهده الصفار في هذا السفر أخرجه عن طور التعقل إحترام المقال، فكان الأمر الغير الاعتيادي الأول هو ما اسماه بنفسه قانون السفر، حيت تنتفي الحاجة إلى اصطحاب الزاد والمال، وحيت العمارة متصل ببعضه ببعض، والعمران يوفر للمسافر ما يحتاجه في سفره من المأكل والمشرب والمأوى، لقد دقق الصفار في وصفه لـ"لأوكنضات" وللـ"بوصاضات" وأعطانا الفرق بينهما بدقة، مع تفصيل الحديث في دقائق أثاثهما، وما تحتويه غرفها من الأغراض الحياتية، وقد لفت انتباهنا أن الصفار تحدث بكثير من الانبهار عن هذه الأثاث وهو الذي حالس ناشا تطوان الغني، واطلع ــ محالة عن مفروشات داره ــ لكنه نسي كل ذلك في حديثه عن هذه الدور، لفت انتباهنا غياب أي إشارة للأحكام القيمية الدينية، وخاصة أثناء حديثه عن الصور والتماثيل وآلات الموسيقى التي أثثت بها جنبات البيوت، رغم أن المنطق الديني له موقف واضح من هذه الأمور، الأكيد أن الصفار على بينة منه.
• رابع لقاء للصفار مع الجديد كان من خلال وسائل النقل، المعتمدة في إيصال الوفد السفاري المغربي إلى باريس، الأمر يتعلق بما أسماه الصفار بــ"الأكداش والكراريص"، تلك العربات التي تجرها الخيول، والتي لم يسبق للصفار بها عهد، لقد كان انبهار الصفار بها جليا، لدرجة أن نعتها بــ" ... بيت من البيوت، لا يخاف راكبه من ريح ولا مطر ولا شمس ولا حر ولا برد لأنه داخل بيته ..."، وهكذا غاص الصفار في الحدث عنها وعن أنواعها والأعراض المستعملة لأجالها، وكأنه يتحدث عن إحدى المعجزات الربانية، بالإضافة إلى انبهاره بالمستوى الرفيع الذي الفرنسيون فيما يخص العناية بالطرقات واالقناطر، حتى بات عندهم من العلوم، تفرد له التآليف الكثيرة، لقد كان الصفار دقيق الملاحظة منبهرا إللى حد كبير، وخائب الظن في مرات عديدة، إذ يقول متحدثا عن القناطر " وليس لهم نهرا ولا خندق ولا حفير ولا خليج إلا عليه قنطرة. فما رأينا في طريقنا هذه من يخوض نهرا قط برجله أو دابته".
• خامس لقاء للصفار مع الجديد ما يزال يتعلق بالسفر البري إلى باريس، الأمر يتعلق بمستوى الأمر في الطرقات، وهو ما تحدث عن الصفار بإطلاقية كبيرة، تنم عن الانبهار العظيم، حيت اعتبر أن الأمن مستتبا في البلاد ليلا نهارا، وهو الغريب عن البلاد، المسافر في موكب الأكيد أن الفرنسي حرص كل الحرص على اخفاء كل ما من شأنه أن ينغص عن الزوار سفرهم ورحلتهم الاستكشافية المدروسة بدقة كبيرة.
• سادس لقاء للصفار مع الجديد، تأتي من خلال ملاحظاته الخاصة بكل تلك المشاهد التي مر بها في الطريق إلى باريس، أي بالعمارة والعمران، لقد وقف الصفار على غياب مشاهد لطالما وقف عليها في بلاده، هي مشاهد الخيم والنوايل، حيت كان الانسان المغربي في الأغلب الأعم يسكن، أما الفرنسيين فبيوتهم بناء صلب، لا فرق كبير فيه بين ما يوجد في المدينة وما يوجد في البوادي، على أن مسافة الرحلة القصيرة أعجز من أن تمكن الصفار من الخروج باستنتاجات كبيرة كتلك التي عبر عنها بقوله "وقد رأينا في طريقنا هذه ما يشهد شهادة حق [والفقيه العارف أعلم بمدلول شهادة الحق هذه في ميزان العمل الديني] لأهل هذه البلاد بالاعتناء التام والتبصر لأمور دنياهم وإصلاح معاشهم وإتقان تدبيرهم، فهم جادون كل الجد في عمارة الأرض بالناء والغرس وغيره، لا يسلكون في ذلك طريق التساهل ولا يصحبهم فيه تغافل ولا تكاسل..." ، هي جملة واضحة، دالة دلالة كبرى على الانبهار الكبير بما عند الآخر من حضارة، جعلت الفقيه العارف بمعنى شهادة الحق، يغامر بكل معقوليته ويعطي للفرنسي شهادة كبيرة بحسن تدبير الأمر، خلال سبعة أيام من السفر بين مارسيليا وباريس، وهي مدة لا تكفي حتى للتعرف على قوانين التنس دأبهم في أعمالهن، ناهيك عن الشهادة لهم أو عليهم.
• سابع لقاء للصفار مع الجديد، كان ما اسماه بــ"طريق الحديد" وقصد به القطار، لقد وصف الصفار توصيفا عجيا يبعث على الضحك ابتداء، لكنه يفصح عن افتقاد الأنا الواصفة لشيء تماثل به الاختراع العجيب، الذي وقفت أمامه مشدوهة لا حول ولا قوة لها ولو بوصفه، كيف لا وهي الذات التي أعجبت بالكراريص حد الافتتان، وهكذا عند أراد الصفار أن يتحدث عن سرعة هذا "الشيء العجيب" قال "...يساير الطير في الهواء، بحيث قطعنا المسافة في ساعتين ونصف، إلى وكنا ننظر جوانب الطريق فلا نرى ما فيها من الأحجار إلا كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا، ولا نحقق الحجر وغيره ..."، لقد أطال الصفار الحديث عن القطار، لكن حديثه كان موضوعيا، واصفا أمينا لما رآه، وخلب لبه، على أنه لم يقتصر فيما ما يبدو على وصف ما لمحته عيناه، بل لعله سئل واستفسر، فخلص إلى أن شأن القطارات في هذا البلد ما أقامته الدولة وما أقامه التجار وهو الغالب، على مسائل الشركة المقننة بالعقود المضبوطة.
هذه نماذج فقط تظهر الانبهار الكبير الذي اعترى الصفار في رحلة بين مارسيليا وباريس، تلك الرحلة التي دامت سبعة أيام تحقق فيها للصفار الإعجاب الكبير بالآخر، لدرجة أعمت عينه عن رأيت المعقول فيه إن لم نقل القبيح، فلا دم الفقيه الخمر التي قال عنها أنها " أنها من ضرورات عيشهم إذا أريقت خمرهم لفاضت منها البحار" فما بالك بالصفار يرى باريس لأول مرة في حياته.
• الصفار في باريس: الأنا المنبهرة وسط الحضارة.
قلنا أن الصفار أبدى من الانبهار لأحول الفرنسيين الشيء الكثير، وهو فقط في الطريقة إلى مفخرة البلاد الفرنسية عامة، عاصمة الأنوار منذ الزمن البعيدة، لقد تمكن الصفار من التجوال من معطيات كثيرة تخص المدينة حتى قبل التجوال فيها، فكانت ملاحظاته في جانبا منها تتسم بالموضوعية ـ على الأقل لأنها نقلت عن غيرهاـ كما كانت مشاهدات طابعها العام الانبهار.
يقول الصفار "هذه المدينة غاصة بأهلها، وهي بالنسبة لغيرها من المدن بمنزلة يوم السوق عندنا مع الأيام التي لا سوق فيها"، الأنا في هذا المشهد لم تجد في مخيالها ما تشبه به كثافة الناس في باريس غير يوم السوق، أما عن عدد السكان فيقول الصفار أنه سمع من غيره أنهم مليون شخص، وهو الرقم ذو الدلالة الكبيرة لو أفصح الصفار عن الشخص أو الأشخاص الذين زوده بها، رقم ثان أورده الصفار بهذه الصيغة، ويتعلق بـعدد الفنارات التي توجد بالمدينة، والتي تجعلها ليلها مضاء، يقول الصفار "يقال إن فيها ماية ألف فنار وكلها موفوعة على أعمدة ممن الخشب محكمة الإنزال والتصفيف متساوية في العلو"، لقد كانت الأنا مشدوهة بكل مظاهر المدنية في باريس، لدرجة احتارت في ما يجب تقديمه أو تأخيره في الوصف، وهكذا وجدنا الصفار يصف الأسوار، والفنارات، والقلاع والأسواق، والحمامات، وخيول العسكر، والكراريص وخيولها النظيفة، التي هي "كلها في غاية الشبع"... بل لقد وصف حتى سبل قضاء حاجة الإنسان الطبيعية، ليشده بمنظر نهر المدينة العظيم (نهر لاسين"، وقناطره العجيبة، بين التي أقيمت على أقواس الحجر، أو تلك التي تستند على أعمدة الحديد، على أن التي كانت معلقة، أجهزت على ما تبق للصفار من مخزون الدهشة، على أن الصفار وقع التناقض، وغلبة تكوينه الفقهي حين تحدث عن دواعي استعمال الباريسيين للكراريص، فقال أن السبب يعود إلى "حب الرياء الذي طبعوا عليه"، كما اعتبر أن كبر المسافة يحتم عليهم اتحاد الكراريص، وفي ذلك تناقض واضح.
• الصفار في المسرح "التياتروا أو الكومزية أو الأوبرا" كما عبر عنه.
قد يكون المسرح أكبر لقاء للصفار مع الجديد، ومع ذلك فقد تلقاه بإيجابية كبيرة لا تستقيم وذهنية فقيه عالم أتى من بلاد لم يمض على هزيمتها في حرب مذلة حوالي السنة من الأيام أمام ممن هو بدارهم، لم يعلق الصفار ببنت شفة وهو يتحدث عن "جواري مزينات بأحسن الزينة أجمل اللباس" ممن هن مشاركات في لعب المسرح، ولا هة علق عن أدوار العشق والتناشد الممثلة على خشبته، لقد كان نظر الصفار أكبر من مجرد الوقوف على صغائر مثل هذه، بل نظر إلى المسرح من زاوية وظيفته الحضارية في المجتمع.
بين الصفار دون مركب نقص، كل المسرحيات التي كانت تمثل في التياتروا، من مسرحيات تمثل أدوار قساوسة الكنيسة يعاقرون الخمر، إلى أدوار العشق والغرام، إلى أدوار معارك "الكفار" مع المسلمين، دون أن يعلق بشئ مما ألفناه عند الفقهاء، بل لقد تناولوا الأنبياء والجنة والملائكة والأموات والصفار جالسا يتفرج بكل طمأنينة غريبة كل الغرابة عن أحد خريجي القرويين يزور باريس لأول مرة، أهي الدهشة من الجديد أم شيء أخر لا علم لنا به إلى الآن.
• لقاء الصفار مع "الكوازيط" الجرائد.
يقول الصفار متحدثا عن الجرائد "الكوازط" "فالكوازيط عندهم من أهم المهمات، حتى أن أحدهم قد يصبر على الأكل ولا يصبر على النظر في الكازيطة"، وقد أرجع الصفار شغف الفرنسيين بالجرائد إلى شغفهم بجديد الأخبار، على الرغم من إقراره بأن أخبار "الكوازيط" ليست صحيحة مائة بالمائة، وانطلق واصفا الطريقة التي تعمل بها الجرائد، وتوزع بها على زبنائها، وثمنها والموضوعات التي تكتب عنها، معتبرا أن هذا الشعب مقدس لحرية التعبير، مدافع عنها، بل وخالع لطاعة ملوكه إذا ضيقوا عليه في حرية التعبير، كما حدث مع شارل العاشر، وفي كل هذا يظهر أن الصفار متأثر حد الانبهار بما قيل له، إذ كيف له أ ن يعرف إذا ما كان الفرنسيون يصبرون على الجوع ولا يصبرون على افتقاد الجرائد.
• لقاء الصفار مع طباع الباريسيين.
وقف الصفار على العديد من طبائع البارسيين دون أن يستغربها أو يستنكرها، بل ذهبت به الجرأة أن جرب العديد منها، لكن فرية الانطباع ظلت تلازمه، ونقيصة الانبهار قودت توصيفاته، وهكذا تحدث عن "الخفة والطيش" وعن عادة الجلوس" الذي هو عيب عند الرجال في أوقات المسامرة، والالتفاف حول كثيري الكلام أفيده، وممن طباعهم كذلك الحدة والشرارة والأنفة والتبارز، كما انتبه الصفار إلى عناية الفرنسيين بالنظافة، وإجادة صنعة الآدب والفنون، حتى أن غيرهم من الاجناس يرسلون أبنائهم إلى باريس لتعلم كل ذلك.
على أن الذي أرجع الصفار عن انبهاره كان إعابته عليهم مسألة التبول على في الأزقة "أصول الحيطان"، وكع ذلك كاتن إعابت الصفار عنهم عابرة، إذ سرعان ما أشار إلى عرض الأزقة الكفيل بإزالة الرائحة الكريهة، وقد انكشفت "لبرالية" فقيهنا القروي عند حديثه عن النساء الفرنسيات فوجدناه يصف الجمال ويتفنن في ذلك، بل وينطلق لسانه بالشعر الجميل ، و"يلهى عقله ويدهل" على حد قوله، فلا حديث عنده عن السفور أو التبرج، أو مزاحمة الرجال في ميادين العمل، كما كان دأب من هو في شاكلته في الفقه القروي.
ومن الطبائع الذي جلبت انتباه الصفار ممن يتعلق بمسألة الأكل عند البارسيين، فأورد لذلك فصلا خاصا أطنب فيه الحديث طبائعهم في الأكل، ومن ذلك عدم الأكل باليد ولا الالتفاف حول صحن واحد، ولا الجلوس على الأرض، وأفراد كل واحد بأنائه وكأسه، ثم انطلق فقيهنا في تعداد ما يأكله البارسيون زكا يشربونه فدقق الصورة حتى صارت قلمية أبلع من الصورة الفوتغرافية، لكن غيبها ظل هو الانبهار والنمطية والتعميم وكأن المجتمع طيقة واحدة، لا فروق فيها ولا مستويات.
• اللقاء مع ملك فرنسا.
كان اللقاء مع الملك الفرنسي في اليوم التالي الذي أعقب دخولهن باريس، وهو اللقاء الذي وصفه الصفار في أدق تفاصيله، فبدأ بالحديث عن "الكودشيات" الأربعة التي أقلت الوفد من محل الإقامة بشارع "الشمزيليزي" بتعبير الصفار، إلى القصر الملكي، الذي راعه تصميمه وزخرفه وأبهته، ليعود الصفار إلى قاموسه الفقهي مستنجدا، فأورد قوله تعالى "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم، زهرة الحياة الدنيا، لنفتيهم فيه"، وهنا نطرح السؤال عن معزى العودة إلى الاحتماء بالنص المقدس، وكأن الصفار يصطدم الجديد لأول مرة، على كل فقد استقبل الملك الفرنسي الوفد المغربي بما ليق به ، حسب الصفار، وتليت عبارات الكلام "المزور"، أي الكلام البرتكولي الذي يقال في مثل لحظات الاستقبال هذه، بل وحظي الوفد باستقبال فخم آخر على العشاء مع الملك وزوجته، ثم تحدث الصفار عن الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة التي شهدها الوفد في قصر الملك، وعن التي هنأت الملك.
• الصفار في دار الكتب.
أخيرا وصل الصفار إلى وصف أحب الأماكن إلى قلبه، ميدان الكتب صنعته، فأخد في الوصف الدقيق، للرفوف والصناديق، وعن نظافة المكان، حسن ترتيبه، ولطف القيمين عليه، وإلمامهم بكل ما يتوفر فيه من الكتب على مختلف اللغات، على أ توجد الكتب العربية لفت انتباه الصفار، بل أرجعه وجود المصحف الشريف بين كتبهم إلى لاشعوره إذ لفظ لأن مرة لفظ الكفرة في مدونة رحلته يقول " طلبنا منهم الكتب العربية ، فأحضروا لنا مصحف
عظيما في مجلد كبير يحمله اثنان من الناس بينهما لكبره، وهو خط مشرقي لم ير مثله حسنا وبهجة ورونقا وكمالا. زلا يوصف ما فيه من الحلية والذهب مما يستحسن أن يكون في خزانة ملوك الإسلام أظفرهم الله به وأنقذه من أيدي الكفرة".
لقد نطقها الصفار على مضض، وهو الذي لطالما أبدى انبهاره بمظاهر الحضارة الفرنسية، وغض الطرف عن الكثير من مظاهر الانحلال في المجتمع الفرنسي، لكن تواجد القرآن بين أيديهم حرك فيه مشاعر الفقيه المسافر إلى مجتمع من المفروض أن لا تشد إليه الرحال، على أن الصفار وصف المجتمع الفرنسي بالكثير من الانبهار الذي لطالما أفسد الوصف وجهله بعيدا كل البعد عن الواقع الحقيقي لفرنسا في هذه الفترة الزمنية.
خلاصات
وقفنا مع الصفار في رحلته إلى فرنسا على العديد من مظاهر الحضارة الفرنسية، عكف الصفار على تعداد العديد منها، مظاهر حياتية، عاشها أو سمع عنها من غيره، وفقنا على انبهار الأنا المغربية بالآخر الفرنسي، بل ووفقنا على ذوبانها فيه، وهي الأنا الخارجة للتو من معترك الهزيمة القاسية، نسيت لفترات عديدة أنها أنا إسلامية داخل بيئة كافرة باصطلاح الفقهاء، والذي نقل لنا تلك المشاهد الرائعة واحد منهم، كما وقفنا على رجة تواجد المصحف بين أيديها، مما شكل صفعة للأنا أفاقتها من نومها واستكانتها له، لكننا ايضا وقفنا على روح التسامح المتبادلة بين الأنا والأخر، إذ لم يحدثنا الصفار، إلا بإشارات عابرة عن صدفة لقاء الأخر مع الآنا المغربية الغريبة عنه، بل حدثنا عن التقدير الذي أبان عنه الفرنسيون للوفد المغربي، وعن مشاعر الرومنسية التي بعتها تواجد أحفاد آل السراج بين الفرنسيين، أما اللغة باعتباره عائقا تواصليا فقد كان شبه مغيب على الرغم من تأثيره في الرحلة، وتأثيره على الصفار أساسا.
وخلصنا إلى أن أن الرحلة تقرأ في سياقها العام، فالا يمكن أن نفهم لماذا كل هذا الانبهار بمعزل عن روح الانبهار العامة تجاه الفرنسيين وخاصة بعد تفوقهم على الذات المغربية، وروح تقريع الذات، بل وجلدها بعد الانهزام أمام الآخر الكافر، الذي من المفروض أنه ضعيف نظرا لتسلحه بغير سلاح الأيمان والتأييد الإلاهي، ومن تم كان من المحق لنا أن نتساءل، هل فعلا وقف المغاربة على ما يمكن أن نسميه بالمراجعات الضرورية لفهم ذواتهم في ظل المقارنة مع الأخر، هل فعلا كان هزيمة إسلي درسا بليغا إلى من يهمم الأمر؟ هل استفاد أحدهم من خلاصات رحلة الصفار إلى فرنسا؟ وهل عمل الصفار نفسه على توظيف كل تلك الخبرات التي اكتسبها والعلاقات التي حاز عليها بعد أن واتت الظروف ليهمس في آدان القائمين على الشأن العام، ولعل صار أحدهم بوصوله إلى منصب الصدارة العظمى، ةيقةم ببعض الإصلاحات؟ نخشى أن يكون الجواب سلبيا.
• في الطريق إلى باريس.
• أول لقاء للصفار مع الجديد كان من خلال المركب التي أقلت الوفد من طنجة إلى فرنسا، تلك المركب التي وصفها الصفار قائلا "وقد كان بعت لنا من نحن متجهون إليه مركبا عظيما من مراكب النار المعروفة بالبابور، قد انتخبه لنا من أحسن ما عنده استجلابا للألفة وحفظا للمودة" وهي في الحقيقة إحدى المراكب التي كانت تستخدم في تمريض الجنود الفرنسيين المحاربين في الجزائر أثناء إعادتهم إلى فرنسا، مركبا عادية صغيرة الحجم، لم ترق القنصل الفرنسي في طنجة، ولا راقته الرتبة العسكرية الصغيرة لرئيسها، ومع ذلك اعتبرها الصفار مركبا عظيمة تليق بالسفارة، لتستمر الرحلة بحرا زهاء الخمسة أياما، حاول الفرنسيون خلالها بكل الوسائل الترويح على المسافرين، لكن الصفار ظل على تحفظه وقلة انشراحه، بحسب ما سجله قائد المركب الملازم الأول "جويفروى"، قلة الانشراح هذه يمكن تفسيرها بالخوف من البحر الذي قد تملك الصفار في الرحلة وخاصة وأنه أورد آليات قرآنية تبجل البحر، واليس بسبب موقف التحفظ الأصيل في الصفار.
• ثاني لقاء للسفارة والصفار مع الجديد من جلال الليلة التي قضوها في مرسى « Golfe des lions » التي قصدتها السفينة للتزود بما تحتاج إليه من الوقود، هنا وجدنا الصفار يعتدل في وصفه لتلك الميناء، فيعتبرها "...مرسى صغيرة لاكنها لإتقان وإحكام صنعتها وحسن مدخلها وبناء شواطئها تلحق أو تفوق الكبيرة، ليس فيها رياح ولا تمويج، فيصير المركب في داخلها كأنه في وسط صهريج" هنا نستشف أن الصفار يعقد مقارنة واضحة مع ما عانته السفينة "الميتور" عندما همت بإركاب وفد الرحلة في طنجة، تلك المرسى الكبيرة التي اضطرت السفينة إلى انتظار أيام عديدة إلى هدأت حركة الأمواج الناتجة عن الرياح القوية التي تعيشها منطقة "البوغاز" على طول السنة، لقد كانت ملاحظات الصفار تقنية دقيقة، تنم عن معرفته السابقة بشؤون الموانئ ولا غرابة باعتباره ابن مدينة ساحلية. كما أن الصفار استطاع أن يفرق بين الحاضرة والبادية في حديثه عن هذه المدينة الصغيرة.
• ثالث لقاء للصفار مع الجديد كان من خلال السفر البري من مرسيلية إلى باريس، والذي أفرد له في الرحلة بابا خاصا، بدأه بلف "اعلم" على الرغم من أن نص الرحلة موج بالأساس إلى حضرة السلطان صاحب الزمان، مع ما يقتديه الأمر من حسن التأدب مع البيان، لكن ما شاهده الصفار في هذا السفر أخرجه عن طور التعقل إحترام المقال، فكان الأمر الغير الاعتيادي الأول هو ما اسماه بنفسه قانون السفر، حيت تنتفي الحاجة إلى اصطحاب الزاد والمال، وحيت العمارة متصل ببعضه ببعض، والعمران يوفر للمسافر ما يحتاجه في سفره من المأكل والمشرب والمأوى، لقد دقق الصفار في وصفه لـ"لأوكنضات" وللـ"بوصاضات" وأعطانا الفرق بينهما بدقة، مع تفصيل الحديث في دقائق أثاثهما، وما تحتويه غرفها من الأغراض الحياتية، وقد لفت انتباهنا أن الصفار تحدث بكثير من الانبهار عن هذه الأثاث وهو الذي حالس ناشا تطوان الغني، واطلع ــ محالة عن مفروشات داره ــ لكنه نسي كل ذلك في حديثه عن هذه الدور، لفت انتباهنا غياب أي إشارة للأحكام القيمية الدينية، وخاصة أثناء حديثه عن الصور والتماثيل وآلات الموسيقى التي أثثت بها جنبات البيوت، رغم أن المنطق الديني له موقف واضح من هذه الأمور، الأكيد أن الصفار على بينة منه.
• رابع لقاء للصفار مع الجديد كان من خلال وسائل النقل، المعتمدة في إيصال الوفد السفاري المغربي إلى باريس، الأمر يتعلق بما أسماه الصفار بــ"الأكداش والكراريص"، تلك العربات التي تجرها الخيول، والتي لم يسبق للصفار بها عهد، لقد كان انبهار الصفار بها جليا، لدرجة أن نعتها بــ" ... بيت من البيوت، لا يخاف راكبه من ريح ولا مطر ولا شمس ولا حر ولا برد لأنه داخل بيته ..."، وهكذا غاص الصفار في الحدث عنها وعن أنواعها والأعراض المستعملة لأجالها، وكأنه يتحدث عن إحدى المعجزات الربانية، بالإضافة إلى انبهاره بالمستوى الرفيع الذي الفرنسيون فيما يخص العناية بالطرقات واالقناطر، حتى بات عندهم من العلوم، تفرد له التآليف الكثيرة، لقد كان الصفار دقيق الملاحظة منبهرا إللى حد كبير، وخائب الظن في مرات عديدة، إذ يقول متحدثا عن القناطر " وليس لهم نهرا ولا خندق ولا حفير ولا خليج إلا عليه قنطرة. فما رأينا في طريقنا هذه من يخوض نهرا قط برجله أو دابته".
• خامس لقاء للصفار مع الجديد ما يزال يتعلق بالسفر البري إلى باريس، الأمر يتعلق بمستوى الأمر في الطرقات، وهو ما تحدث عن الصفار بإطلاقية كبيرة، تنم عن الانبهار العظيم، حيت اعتبر أن الأمن مستتبا في البلاد ليلا نهارا، وهو الغريب عن البلاد، المسافر في موكب الأكيد أن الفرنسي حرص كل الحرص على اخفاء كل ما من شأنه أن ينغص عن الزوار سفرهم ورحلتهم الاستكشافية المدروسة بدقة كبيرة.
• سادس لقاء للصفار مع الجديد، تأتي من خلال ملاحظاته الخاصة بكل تلك المشاهد التي مر بها في الطريق إلى باريس، أي بالعمارة والعمران، لقد وقف الصفار على غياب مشاهد لطالما وقف عليها في بلاده، هي مشاهد الخيم والنوايل، حيت كان الانسان المغربي في الأغلب الأعم يسكن، أما الفرنسيين فبيوتهم بناء صلب، لا فرق كبير فيه بين ما يوجد في المدينة وما يوجد في البوادي، على أن مسافة الرحلة القصيرة أعجز من أن تمكن الصفار من الخروج باستنتاجات كبيرة كتلك التي عبر عنها بقوله "وقد رأينا في طريقنا هذه ما يشهد شهادة حق [والفقيه العارف أعلم بمدلول شهادة الحق هذه في ميزان العمل الديني] لأهل هذه البلاد بالاعتناء التام والتبصر لأمور دنياهم وإصلاح معاشهم وإتقان تدبيرهم، فهم جادون كل الجد في عمارة الأرض بالناء والغرس وغيره، لا يسلكون في ذلك طريق التساهل ولا يصحبهم فيه تغافل ولا تكاسل..." ، هي جملة واضحة، دالة دلالة كبرى على الانبهار الكبير بما عند الآخر من حضارة، جعلت الفقيه العارف بمعنى شهادة الحق، يغامر بكل معقوليته ويعطي للفرنسي شهادة كبيرة بحسن تدبير الأمر، خلال سبعة أيام من السفر بين مارسيليا وباريس، وهي مدة لا تكفي حتى للتعرف على قوانين التنس دأبهم في أعمالهن، ناهيك عن الشهادة لهم أو عليهم.
• سابع لقاء للصفار مع الجديد، كان ما اسماه بــ"طريق الحديد" وقصد به القطار، لقد وصف الصفار توصيفا عجيا يبعث على الضحك ابتداء، لكنه يفصح عن افتقاد الأنا الواصفة لشيء تماثل به الاختراع العجيب، الذي وقفت أمامه مشدوهة لا حول ولا قوة لها ولو بوصفه، كيف لا وهي الذات التي أعجبت بالكراريص حد الافتتان، وهكذا عند أراد الصفار أن يتحدث عن سرعة هذا "الشيء العجيب" قال "...يساير الطير في الهواء، بحيث قطعنا المسافة في ساعتين ونصف، إلى وكنا ننظر جوانب الطريق فلا نرى ما فيها من الأحجار إلا كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا، ولا نحقق الحجر وغيره ..."، لقد أطال الصفار الحديث عن القطار، لكن حديثه كان موضوعيا، واصفا أمينا لما رآه، وخلب لبه، على أنه لم يقتصر فيما ما يبدو على وصف ما لمحته عيناه، بل لعله سئل واستفسر، فخلص إلى أن شأن القطارات في هذا البلد ما أقامته الدولة وما أقامه التجار وهو الغالب، على مسائل الشركة المقننة بالعقود المضبوطة.
هذه نماذج فقط تظهر الانبهار الكبير الذي اعترى الصفار في رحلة بين مارسيليا وباريس، تلك الرحلة التي دامت سبعة أيام تحقق فيها للصفار الإعجاب الكبير بالآخر، لدرجة أعمت عينه عن رأيت المعقول فيه إن لم نقل القبيح، فلا دم الفقيه الخمر التي قال عنها أنها " أنها من ضرورات عيشهم إذا أريقت خمرهم لفاضت منها البحار" فما بالك بالصفار يرى باريس لأول مرة في حياته.
• الصفار في باريس: الأنا المنبهرة وسط الحضارة.
قلنا أن الصفار أبدى من الانبهار لأحول الفرنسيين الشيء الكثير، وهو فقط في الطريقة إلى مفخرة البلاد الفرنسية عامة، عاصمة الأنوار منذ الزمن البعيدة، لقد تمكن الصفار من التجوال من معطيات كثيرة تخص المدينة حتى قبل التجوال فيها، فكانت ملاحظاته في جانبا منها تتسم بالموضوعية ـ على الأقل لأنها نقلت عن غيرهاـ كما كانت مشاهدات طابعها العام الانبهار.
يقول الصفار "هذه المدينة غاصة بأهلها، وهي بالنسبة لغيرها من المدن بمنزلة يوم السوق عندنا مع الأيام التي لا سوق فيها"، الأنا في هذا المشهد لم تجد في مخيالها ما تشبه به كثافة الناس في باريس غير يوم السوق، أما عن عدد السكان فيقول الصفار أنه سمع من غيره أنهم مليون شخص، وهو الرقم ذو الدلالة الكبيرة لو أفصح الصفار عن الشخص أو الأشخاص الذين زوده بها، رقم ثان أورده الصفار بهذه الصيغة، ويتعلق بـعدد الفنارات التي توجد بالمدينة، والتي تجعلها ليلها مضاء، يقول الصفار "يقال إن فيها ماية ألف فنار وكلها موفوعة على أعمدة ممن الخشب محكمة الإنزال والتصفيف متساوية في العلو"، لقد كانت الأنا مشدوهة بكل مظاهر المدنية في باريس، لدرجة احتارت في ما يجب تقديمه أو تأخيره في الوصف، وهكذا وجدنا الصفار يصف الأسوار، والفنارات، والقلاع والأسواق، والحمامات، وخيول العسكر، والكراريص وخيولها النظيفة، التي هي "كلها في غاية الشبع"... بل لقد وصف حتى سبل قضاء حاجة الإنسان الطبيعية، ليشده بمنظر نهر المدينة العظيم (نهر لاسين"، وقناطره العجيبة، بين التي أقيمت على أقواس الحجر، أو تلك التي تستند على أعمدة الحديد، على أن التي كانت معلقة، أجهزت على ما تبق للصفار من مخزون الدهشة، على أن الصفار وقع التناقض، وغلبة تكوينه الفقهي حين تحدث عن دواعي استعمال الباريسيين للكراريص، فقال أن السبب يعود إلى "حب الرياء الذي طبعوا عليه"، كما اعتبر أن كبر المسافة يحتم عليهم اتحاد الكراريص، وفي ذلك تناقض واضح.
• الصفار في المسرح "التياتروا أو الكومزية أو الأوبرا" كما عبر عنه.
قد يكون المسرح أكبر لقاء للصفار مع الجديد، ومع ذلك فقد تلقاه بإيجابية كبيرة لا تستقيم وذهنية فقيه عالم أتى من بلاد لم يمض على هزيمتها في حرب مذلة حوالي السنة من الأيام أمام ممن هو بدارهم، لم يعلق الصفار ببنت شفة وهو يتحدث عن "جواري مزينات بأحسن الزينة أجمل اللباس" ممن هن مشاركات في لعب المسرح، ولا هة علق عن أدوار العشق والتناشد الممثلة على خشبته، لقد كان نظر الصفار أكبر من مجرد الوقوف على صغائر مثل هذه، بل نظر إلى المسرح من زاوية وظيفته الحضارية في المجتمع.
بين الصفار دون مركب نقص، كل المسرحيات التي كانت تمثل في التياتروا، من مسرحيات تمثل أدوار قساوسة الكنيسة يعاقرون الخمر، إلى أدوار العشق والغرام، إلى أدوار معارك "الكفار" مع المسلمين، دون أن يعلق بشئ مما ألفناه عند الفقهاء، بل لقد تناولوا الأنبياء والجنة والملائكة والأموات والصفار جالسا يتفرج بكل طمأنينة غريبة كل الغرابة عن أحد خريجي القرويين يزور باريس لأول مرة، أهي الدهشة من الجديد أم شيء أخر لا علم لنا به إلى الآن.
• لقاء الصفار مع "الكوازيط" الجرائد.
يقول الصفار متحدثا عن الجرائد "الكوازط" "فالكوازيط عندهم من أهم المهمات، حتى أن أحدهم قد يصبر على الأكل ولا يصبر على النظر في الكازيطة"، وقد أرجع الصفار شغف الفرنسيين بالجرائد إلى شغفهم بجديد الأخبار، على الرغم من إقراره بأن أخبار "الكوازيط" ليست صحيحة مائة بالمائة، وانطلق واصفا الطريقة التي تعمل بها الجرائد، وتوزع بها على زبنائها، وثمنها والموضوعات التي تكتب عنها، معتبرا أن هذا الشعب مقدس لحرية التعبير، مدافع عنها، بل وخالع لطاعة ملوكه إذا ضيقوا عليه في حرية التعبير، كما حدث مع شارل العاشر، وفي كل هذا يظهر أن الصفار متأثر حد الانبهار بما قيل له، إذ كيف له أ ن يعرف إذا ما كان الفرنسيون يصبرون على الجوع ولا يصبرون على افتقاد الجرائد.
• لقاء الصفار مع طباع الباريسيين.
وقف الصفار على العديد من طبائع البارسيين دون أن يستغربها أو يستنكرها، بل ذهبت به الجرأة أن جرب العديد منها، لكن فرية الانطباع ظلت تلازمه، ونقيصة الانبهار قودت توصيفاته، وهكذا تحدث عن "الخفة والطيش" وعن عادة الجلوس" الذي هو عيب عند الرجال في أوقات المسامرة، والالتفاف حول كثيري الكلام أفيده، وممن طباعهم كذلك الحدة والشرارة والأنفة والتبارز، كما انتبه الصفار إلى عناية الفرنسيين بالنظافة، وإجادة صنعة الآدب والفنون، حتى أن غيرهم من الاجناس يرسلون أبنائهم إلى باريس لتعلم كل ذلك.
على أن الذي أرجع الصفار عن انبهاره كان إعابته عليهم مسألة التبول على في الأزقة "أصول الحيطان"، وكع ذلك كاتن إعابت الصفار عنهم عابرة، إذ سرعان ما أشار إلى عرض الأزقة الكفيل بإزالة الرائحة الكريهة، وقد انكشفت "لبرالية" فقيهنا القروي عند حديثه عن النساء الفرنسيات فوجدناه يصف الجمال ويتفنن في ذلك، بل وينطلق لسانه بالشعر الجميل ، و"يلهى عقله ويدهل" على حد قوله، فلا حديث عنده عن السفور أو التبرج، أو مزاحمة الرجال في ميادين العمل، كما كان دأب من هو في شاكلته في الفقه القروي.
ومن الطبائع الذي جلبت انتباه الصفار ممن يتعلق بمسألة الأكل عند البارسيين، فأورد لذلك فصلا خاصا أطنب فيه الحديث طبائعهم في الأكل، ومن ذلك عدم الأكل باليد ولا الالتفاف حول صحن واحد، ولا الجلوس على الأرض، وأفراد كل واحد بأنائه وكأسه، ثم انطلق فقيهنا في تعداد ما يأكله البارسيون زكا يشربونه فدقق الصورة حتى صارت قلمية أبلع من الصورة الفوتغرافية، لكن غيبها ظل هو الانبهار والنمطية والتعميم وكأن المجتمع طيقة واحدة، لا فروق فيها ولا مستويات.
• اللقاء مع ملك فرنسا.
كان اللقاء مع الملك الفرنسي في اليوم التالي الذي أعقب دخولهن باريس، وهو اللقاء الذي وصفه الصفار في أدق تفاصيله، فبدأ بالحديث عن "الكودشيات" الأربعة التي أقلت الوفد من محل الإقامة بشارع "الشمزيليزي" بتعبير الصفار، إلى القصر الملكي، الذي راعه تصميمه وزخرفه وأبهته، ليعود الصفار إلى قاموسه الفقهي مستنجدا، فأورد قوله تعالى "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم، زهرة الحياة الدنيا، لنفتيهم فيه"، وهنا نطرح السؤال عن معزى العودة إلى الاحتماء بالنص المقدس، وكأن الصفار يصطدم الجديد لأول مرة، على كل فقد استقبل الملك الفرنسي الوفد المغربي بما ليق به ، حسب الصفار، وتليت عبارات الكلام "المزور"، أي الكلام البرتكولي الذي يقال في مثل لحظات الاستقبال هذه، بل وحظي الوفد باستقبال فخم آخر على العشاء مع الملك وزوجته، ثم تحدث الصفار عن الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة التي شهدها الوفد في قصر الملك، وعن التي هنأت الملك.
• الصفار في دار الكتب.
أخيرا وصل الصفار إلى وصف أحب الأماكن إلى قلبه، ميدان الكتب صنعته، فأخد في الوصف الدقيق، للرفوف والصناديق، وعن نظافة المكان، حسن ترتيبه، ولطف القيمين عليه، وإلمامهم بكل ما يتوفر فيه من الكتب على مختلف اللغات، على أ توجد الكتب العربية لفت انتباه الصفار، بل أرجعه وجود المصحف الشريف بين كتبهم إلى لاشعوره إذ لفظ لأن مرة لفظ الكفرة في مدونة رحلته يقول " طلبنا منهم الكتب العربية ، فأحضروا لنا مصحف
عظيما في مجلد كبير يحمله اثنان من الناس بينهما لكبره، وهو خط مشرقي لم ير مثله حسنا وبهجة ورونقا وكمالا. زلا يوصف ما فيه من الحلية والذهب مما يستحسن أن يكون في خزانة ملوك الإسلام أظفرهم الله به وأنقذه من أيدي الكفرة".
لقد نطقها الصفار على مضض، وهو الذي لطالما أبدى انبهاره بمظاهر الحضارة الفرنسية، وغض الطرف عن الكثير من مظاهر الانحلال في المجتمع الفرنسي، لكن تواجد القرآن بين أيديهم حرك فيه مشاعر الفقيه المسافر إلى مجتمع من المفروض أن لا تشد إليه الرحال، على أن الصفار وصف المجتمع الفرنسي بالكثير من الانبهار الذي لطالما أفسد الوصف وجهله بعيدا كل البعد عن الواقع الحقيقي لفرنسا في هذه الفترة الزمنية.
خلاصات
وقفنا مع الصفار في رحلته إلى فرنسا على العديد من مظاهر الحضارة الفرنسية، عكف الصفار على تعداد العديد منها، مظاهر حياتية، عاشها أو سمع عنها من غيره، وفقنا على انبهار الأنا المغربية بالآخر الفرنسي، بل ووفقنا على ذوبانها فيه، وهي الأنا الخارجة للتو من معترك الهزيمة القاسية، نسيت لفترات عديدة أنها أنا إسلامية داخل بيئة كافرة باصطلاح الفقهاء، والذي نقل لنا تلك المشاهد الرائعة واحد منهم، كما وقفنا على رجة تواجد المصحف بين أيديها، مما شكل صفعة للأنا أفاقتها من نومها واستكانتها له، لكننا ايضا وقفنا على روح التسامح المتبادلة بين الأنا والأخر، إذ لم يحدثنا الصفار، إلا بإشارات عابرة عن صدفة لقاء الأخر مع الآنا المغربية الغريبة عنه، بل حدثنا عن التقدير الذي أبان عنه الفرنسيون للوفد المغربي، وعن مشاعر الرومنسية التي بعتها تواجد أحفاد آل السراج بين الفرنسيين، أما اللغة باعتباره عائقا تواصليا فقد كان شبه مغيب على الرغم من تأثيره في الرحلة، وتأثيره على الصفار أساسا.
وخلصنا إلى أن أن الرحلة تقرأ في سياقها العام، فالا يمكن أن نفهم لماذا كل هذا الانبهار بمعزل عن روح الانبهار العامة تجاه الفرنسيين وخاصة بعد تفوقهم على الذات المغربية، وروح تقريع الذات، بل وجلدها بعد الانهزام أمام الآخر الكافر، الذي من المفروض أنه ضعيف نظرا لتسلحه بغير سلاح الأيمان والتأييد الإلاهي، ومن تم كان من المحق لنا أن نتساءل، هل فعلا وقف المغاربة على ما يمكن أن نسميه بالمراجعات الضرورية لفهم ذواتهم في ظل المقارنة مع الأخر، هل فعلا كان هزيمة إسلي درسا بليغا إلى من يهمم الأمر؟ هل استفاد أحدهم من خلاصات رحلة الصفار إلى فرنسا؟ وهل عمل الصفار نفسه على توظيف كل تلك الخبرات التي اكتسبها والعلاقات التي حاز عليها بعد أن واتت الظروف ليهمس في آدان القائمين على الشأن العام، ولعل صار أحدهم بوصوله إلى منصب الصدارة العظمى، ةيقةم ببعض الإصلاحات؟ نخشى أن يكون الجواب سلبيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق