الاثنين، 30 يناير 2012

((تحفة الملك العزيز بمملكة باريز)) للسفير إدريس بن إدريس العمراوي



((تحفة الملك العزيز بمملكة باريز)) من أدب الرحلات للسفير إدريس بن إدريس العمراوي ___ تقديم وتعليق د. زكي مبارك عرض د. مصطفى محمد العبدالله
يكن ابن بطوطة المغربي الوحيد الذي تجول في مختلف أصقاع العالم ودخل أقاصي بلاد المشرق ومجاهل إفريقية وظلت لنا أخبار أسفاره بفضل عناية ابن عنان الذي أمر بجمع هذه الأخبار وتصنيفها. كما أن هناك العديد من الذين سافروا وتجولوا في أصقاع العالم لأسباب متعددة، وقد صنف الأستاذ محمد الفاسي هذه الرحلات إلى حجازية، وسياحية، ودراسية، وأثرية، واكتشافية، وزيارية، وسياسية ومقامية، وقبالية، وفهرسية، وسفارية، وحول هذا الصنف الأخير من الرحلات، إلى رحلات السفراء، يوضح لنا الأستاذ الفاسي: (برز المغاربة في هذا النوع من الرحلات، ولم يؤلف أحد من العرب بقدر ما وضع المغاربة من رحلات سفارية وكلها كتبت في العصور الحديثة أي ابتداء من السعديين).
وتعد رحلة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا من أهم رحلات الأدب التي نجم عنها وثائق أدبية وإنسانية كان لها الأثر العظيم في تطور الفكر العربي الحديث. وكان الطهطاوي أول مؤلف عربي في العصر الحديث يكتب عن أوروبا ويكشف القناع عن محيا هذه البقاع.
لقد أقام الطهطاوي في الديار الفرنسية نحو خمس سنوات للدراسة والتثقف والاطلاع. وقد نالت رحلة الطهطاوي إلى فرنسا عناية وشهرة ومجداً لكونها ترتبط بمكانة الطهطاوي العلمية والأدبية في مصر النهضة، وما حظيت به رحلته من عناية وتقدير من السلطة الحاكمة في مصر وخاصة من محمد علي الذي اطلع على ما ألفه وكتبه الطهطاوي، فأعجب به وأمر بترجمته إلى التركية والعربية وطبعها باللغتين وتوزيعها بعد طبعها على الدواوين والوجوه والأعيان، والاستفادة منها في المدارس المصرية. وقد تم طبعها في مطبعة بولاق عام 1934. ونذكر منها المؤلف الشهير ((تخليص الإبريز في تلخيص باريز)).
وتم تصنيف رحلة السفير المغربي ابن إدريس العمراوي صاحب ((تحفة الملك العزيز بمملكة باريز)) وما نتج منها من فكر وأدب من أدب الرحلات الذي كان له أثر كبير في التبادل الثقافي بين الأوروبيين العرب. فقد أقام فيها فترة قصيرة لا تتجاوز الأربعين يوماً، ولكن السفير خلال هذه المدة القصيرة استطاع أن يتغلغل داخل المجتمع الفرنسي وتعرّف العديد من جوانب الحياة فيها لينقلها لنا خلال كتابه ((تحفة الملك العزيز بمملكة باريز)) الصادر عن مؤسسة التغليف والطباعة للشمال في المملكة المغربية، حيث قام بالتقديم له والتعليق عليه الأستاذ الباحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي في جامعة محمد الخامس- المغرب، الدكتور زكي مبارك.
يتكون الكتاب من 126 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على توطئة، ثم تقديم حول الإطار التاريخي للرحلة وتعريف بالسفير إدريس بن إدريس العمراوي. ثم تبدأ تحفة الملك العزيز بمملكة باريز فيعرض المؤلف لنا موضوع الرحلة منذ التحضير لها والإقلاع من ميناء طنجة وكيفية السفر والوصول إلى مرسيلية، ويقدم لنا وصفاً لميناء مرسيليا والمدينة بكاملها.
ثم يصف القطار والسكة الحديدية، ثم السفر من مرسيلية إلى مدينة ليون، ويخصص قسماً لابأس به للحديث عن هذه المدينة. ثم يتحدث المؤلف عن إقامته في باريس ((مقام ابن إدريس في باريس))، فيصف هذه المدينة خلال الحديث عن جنات النباتات والوحوش (حديقة الحيوان). ثم وصف لنا دار السلاح ودار الضرب، ودار الطباعة، ودار السلع والأثاث، ودار العسكر العاجز، (وصراية مدينة فرساي). كما أفرد المؤلف بحثاً حول التجارة في هذه المدينة، وتحدث عن مقابلته للامبراطور نابليون الثالث ووزرائه والعسكر وكيفية تكوينه. بعد ذلك تحدث المؤلف عن رحلة عودته إلى المغرب. ويتضمن الكتاب أيضاً" "تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" باللغة الفرنسية وعدد صفحاتها 77 صفحة من القطع المتوسط.
وقد ورد في الكتاب بعض الأشعار منها:
أميل إلى الشكل الظريف إذا بدا
أمتع طرفي فيه ثم اردّدهْ
وما مقصدي فعل القبيح وإنما
أشاهد صنع الله ثم أوحّده
ميناء مرسيلية: عندما وصل السفير العمراوي إلى مرسيلية وصفها قائلاً:
"... وهذه المدينة كبيرة تقارب مدينة فاس في الكبر، وهي بلاد تجارة وباب إقليم فرنسا. ولها مرسيان شرقي وغربي فيهما المراكب ما يزيد على الثلاثمائة، والمرسى كالخليج الراكد يشق وسط المدينة حتى إن بعض المراكب تدخل حتى ترسي أمام حانوت صاحبها أو داره، فنقل السلع من المركب للدار أو الحانوت من غير وساطة، وشوارعها متسعة، وأبنيتها عالية متقنة.... وفي وسط المدينة محالّ متسعة فيها أشجار كبار لا ثمر لها يستظل بها السائرون والمتفرجون تحتها كراسيّ للجلوس وقهاوِ وحوانيت تباع فيها الفواكه والحلاوي) ص44
ويصف المؤلف القطار والسكة الحديدية قائلاً (وهي من عجائب الدنيا التي أظهرها الله في هذا الوقت على أيديهم تحير فيها الأذهان ويجزم الناظر إليها بديهة أن ذلك من فعل الجان وأنه ليس في طوق إنسان) ويصف لنا قاطرة القطار وصفاً دقيقاً وتفصيلياً.
ويقارن بين القطار والوابور (الباخرة). ثم يتابع وصف رحلته من مرسيليا إلى مدينة ليون فيخصص لها حيزاً ويصفها قائلاً:
مدينة ليون: (وهي مدينة كبيرة أكبر من مرسيليا بكثير ولكنها مائلة للبداوة وأهلها أهل حرف، وصنائع، وفيها الفابريكات التي تخدم فيها الثياب الحريرية والقطنية التي تجلب من أرض الفرنصيص ويستعملونها ولا يخدم في غيرها من ذلك إلا القليل.... وهذه المدينة بين جبال صغار محيطة بها وبعض بنائها في الجبل. وقد ذكروا لنا أن أهلها أهل انحراف عن الدولة وخروج عليها، فلا يمر زمان إلا ولهم فيه ثورة.
وأرض الفرنسيين معروفة عند النصارى بكثرة الخمر وجودتها وكانت صحفهم تفتخر بذلك على الإنكليز فيتذكرون: (إنا نبيع للإنجليز الخمر الذي يخرج من عنب بلادنا فنبخسهم لأننا نأخذ فيه ما لهم وعقولهم).
إقامة ابن إدريس في مدينة باريس:
وعندما وصل السفير العمراوي إلى مدينة باريس وصفها قائلاً: (وهذه المدينة كبيرة جداً من أكبر مدن الدنيا يقال: إن أعظم مدن الدنيا ثلاثة: قسطنطينية العظمى التي هي اصطنبول، حرسها الله وعمرها بدوام ذكره، والوندريز “المقصود بها لندن" وهي قاعدة ملك الإنجليز وهذه، على الفرنصيص يزعمون أن هذه المدينة أكبر من هاتين. أما أنا فلا أقدر أن أصف كبرها ولم أكن أظن أن في الدنيا مدينة قبل أن أراها مثل ذلك. وقد رأيت في مصر القاهرة وسلكت أكثر طرقها.... فقدرت أنها أكبر من مدينة فاس بأربع مرات وأظن أن هذه أكبر من مصر بثلاث مرات، فتأتي على هذا أنها أكبر من فاس باثنتي عشرة مرة.) ثم وصف المؤلف المساكن في باريس وعادات الأكل والشراب فيها وشوارع المدينة ونظافتها وحركة السير فيها ثم وصف لنا حديقة الحيوانات التي سماها جنان النباتات والوحوش وما تحتويه من أنواع الحيوانات والطيور والزواحف والأسماك وغيرها. وقد وصف لنا المؤلف دار السلاح التي تعد متحفاً حربياً يجمع فيه كل أنواع الأسلحة مع تطورها. وكذلك وصف دار السكة، وهي المكان الذي يتم فيه سك النقود المعدنية. كما وصف أيضاً دار الطباعة دار الكتب، وقصر فرساي والمسارح والألعاب التي كانت تتم فيها. كما تحدث عن عادات أهل باريز ومنها أن المرأة هي رئيسة البيت والرجل تابع لها، ويورد مثلاً باريسياً إذ يقول: "باريز جنة النساء وجهنم الخيل"، ويصف المؤلف مدينة باريز بالمدينة التجارية إذ يقول:(وأكثر تكسب أهل هذه المدينة من التجارة. والتجار عندهم معتبرون اعتباراً زائداً، وهم ركن من أركان الدولة، وكلما زاد مال الرجل عندهم ونجحت تجارته كان أرفع منزلة وأعظم مكانة.... وقد بلغنا أن لهم داراً يتعلمون فيها كيفية التجارة كما يتعلمون الكتابة والحساب وغير ذلك... ولهم دار يجتمع فيها التجار ساعة في كل يوم يتعاطون فيها أخبار السلع النافدة والكاسدة وأخبار السكك وكيفية روجانها في البلدان واختيار الفابريكات "المصانع" والكنطرادات "العقود" وغير ذلك).
مقابلة الإمبراطور نابليون الثالث:
وعندما قابل السفير العمراوي الامبراطور نابليون الثالث، وصف تفاصيل اللقاء بدقة منذ أن قدم الحاجب بالرسالة التي تعلمه بموعد اللقاء وحتى وصوله إلى الصراي التي قابل فيها الامبراطور ويصفه قائلاً: (وهذا الملك عندهم داهية من دواهي الدنيا قد اتفق رأي كبراء الدول وملوكها فيما بلغنا أنه أدهى ملوك النصارى وأشهمهم وأنتجهم رأياً وأصوبهم سياسة وتدبيراً وأكثرهم حزماً في أموره وتوقياً حتى إنهم يفضلونه على عمه نابليون الأول المشهور بالدهاء والشجاعة، ويقولون: إن هذا مع ما هو عليه من الشجاعة والحزم أمره مبني على الحيل والمكر وكتمان السر، ويحب أن يبلغ مراده بالتدبير والحيلة من غير حرب، ويحب تأخير الحرب ما أمكنه لكونه لا يعرف ما تنتج له ولكون عمه المذكور أُتي من حرصه على الحرب، وهي التي كانت السبب في إخماله وسجنه وانتزاع ملكه وما آل إليه أمره من خراب داره وتشتيت آل بيته مدة حتى قام هذا).
وذكر المؤلف أنه كان لنابليون الثالث تسعة وزراء وهم:
وزير الحرب، وهو أكبر الوزراء مرتبة، وهو الذي يعقد الحرب والهدنة ويباشر العسكر ويولي ويعزل فيه ويقدم ويؤخر. وزير البحر، وهو المكلف بعسكر البحر والمراكب. ووزير الخزنة، وهو المكلف بخزنة المال وحساب الداخل والخارج وعلى يده كافة العقود والضرائب والمكوس. ووزير الأمور الداخلية ووزير العلوم والمعارف، ووزير العدل ووزير الأمور التجارية المكلف بأمور التجارة ودفع المضار عنهم والخسارات وجلب المنافع، ووزير الفلاحة والطرق ووزير الأمور الجزائرية. ووزير الأمور الخارجية، وهو المكلف بالكلام مع الدول الأجنبية والكتابة لهم والتوسط بينهم وبين الدولة.
لقد اطلع السفير ابن إدريس العمراوي على رحلة رفاعة الطهطاوي واستفاد منها، وساعدته على فهم العديد من الأمور ما كان يقبل بصحتها لولا أنه وجدها مذكورة في مؤلف الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". لقد تأثر ابن إدريس برحلة الطهطاوي منهجاً وأسلوباً ودراسة وتحليلاً لمختلف جوانب الحياة في فرنسا. وقد تشابهت الرحلتان في العنوان. فرحلة ابن ادريس تحمل عنوان "تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" في حين أن عنوان رحلة الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". ويعد هذا الكتاب من أدب الرحلات التي يصف من يقوّم بها أحوال الشعوب وعاداتهم ومنازلهم وطرائق عيشهم ليستفاد منها وتكون عبرة، وهي طريق أيضاً للمثاقفة بين الشعوب.
«باريز»... جنة النساء وجهنم الخيل
الإثنين, 07 ديسيمبر 2009
بصيرة الداود *
كُتب عليّ أن أقرأ كتاباً تاريخياً «عجيباً» فكل ما ذُكر فيه كان عجباً، وما بين عجيبة وعجائبهم وعجيبٌ، ومن كثرة ما تعجب الرحالة العربي بهذا الكتاب تعجبت والله من عجبه!
هذا الكتاب العجيب – عزيزي القارئ - هو للرحالة العربي محمد بن إدريس العمراوي، الذي سجل وقائع رحلته إلى مدينة «باريز» (باريس) عام 1860 في كتابه الشهير: «تحفة الملك العزيز بمملكة باريز»، وهو كتاب حققهُ زكي المبارك عام 1989.
ما شد انتباهي كمؤرخة لهذا الكتاب يتلخص في قدرة محمد بن إدريس على الحفاظ على عناصر الرؤية التقليدية والروح الفقهية مع ثقافته كأديب ورحالة ظريف ملتزم في الوقت ذاته بأخلاق وثقافة عصره الدينية الصارمة التي كانت تطغى عليها الاجتهادات والآراء الفقهية لفقهاء القرن الـ18 الميلادي، فجاءت عبارات هذا الكتاب جافة وصارمة ومختصرة لكنها غارقة في الاستطرادات إلى درجة تحريف أو محو الكثير من الأحداث التي منعت المدون من الخوض في مسار التحليل التأويلي للبنى العميقة للحضارة والكفيل بمتابعة دوافع الفكر والسلوك الإنساني عبر التاريخ، واستبداله عوضاً عن ذلك بإطلاق التعابير اللغوية المليئة بالثقة، خصوصاً في ما يتعلق بقلب المفهوم اللغوي إلى النقيض أو الضد، وهي ظاهرة انتشرت تاريخياً منذ القرن الـ16 الميلادي، كتلك التي كانت – مثلاً – تحتقر أي أمير غربي حاول أن يقيم علاقات جيدة مع العالم الإسلامي، بحيث كانت تنعته بصفة «الطاغي» بسبب كفره وعدم دخوله في الدين الإسلامي، أو أن تعتبر المبادرة بالحرب والعدوان في دار الحرب إحياءً لمراسم الجهاد، أو تكفير المخالف في الدين والتفكير والعادات الإسلامية وغيرها، كما أن من المثير في هذا الكتاب التاريخي أنه أظهر في شكل جلي وواضح عقلية هذا الرحالة الأديب التي كانت مشتتة ما بين ما يراه ماثلاً أمامه في باريس من حركة حضارية تنويرية وثورة صناعية، وما بين إخلاصه ووفائه الشديد للتقليد والتراث الإسلامي الماضي، فخرج كتابه بنتيجة مهمة تمثلت في تقيده بالعجائب التي رآها في باريس، بدءاً من القطار وأنظمة محطاته التي أثارت إعجابه حتى وصفها بأنها من عجائب الدنيا أظهرها الله في هذا الوقت على أيدي الكفار لتحير الأذهان وتجزم الناظر إليها بأنها من فعل الجان وليست من طرق الإنسان، كما يصف القطار بقوله: «كان يفُزعنا الهول إذا ما لقينا بابوراً محاذياً لآخر لما نسمع لهما من الدوي ما له حس كحس الصواعق»، أو عند وصفه لهذه الأعجوبة بقوله «ما سمعت أذني ولا رأت عيني ولا طالعت في كتب التواريخ بأعجب ولا أغرب من هذا البابور» إضافة إلى استطراداته الظريفة في وصف أعجوبة التلغراف وغيرها مما أنتجته الثورة الصناعية في أوروبا آنذاك.
أما أنا فقد أدهشني هذا الرحالة! أين كانت شجاعة المسلم حينها؟ وأين هي قيم الجهاد لديه؟ عندما يعجز عن تفسير أو ضبط نفسه في مثل هذه المواقف التي كانت تعطل على ما يبدو الفكر والذاكرة والإدراك بحيث لا تترك مجالاً سوى لانطباعات الدهشة والعجب.
فلماذا لم يتذكر أمثال هؤلاء الرحالة – مثلاً – أسلاف المسلمين الذين شيدوا المدن الإسلامية في الغرب وأقاموا على أرضها الحضارة الإسلامية؟ ليس لشيء إلا من أجل أن يستمدوا من تلك الشواهد رباطة الجأش وضبط النفس عند تدوينهم لإبداعات الأمم الأخرى في مذكراتهم التاريخية.
الحقيقة أن ما يُذهل المؤرخ الواعي هو موقف «التكبر» لدى معظم كُتاب الرحلات من المسلمين في ذلك الوقت عن الأخذ بأسباب التعلم من الآخرين كما تعلموا هم وأخذوا عن المسلمين سابقاً، فقد كانوا يدونون رحلاتهم من دون الوقوف على تحليل عوامل وأسباب نهضة الأمم الأخرى الحضارية، إذ إن من الملاحظ عليهم اكتفاء معظمهم بإبراز آليات دفاعهم فقط عن ثقافتهم الفقهية ومحاولة تأكيد تفوقها من منطلق الإحساس بالعجز والفشل على كل الثقافات الأخرى، ومن أمثلة ذلك ما أورده محمد بن إدريس في كتابه عن غضب الله تعالى على هذه الأمم قائلاً: «فإنا رأينا أناساً من العباد عقولهم كعقولنا حكم الله عليهم وأنقذنا منه بفضله وكرمه، وكره لنا كفرهم وفسوقهم، وجبلنا على عداوة حالهم ظاهراً وباطناً».
ومثل هذا الكلام يدلل تاريخياً على أن الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا آنذاك كانت ضد ما فطر عليه الإنسان المسلم ومسار طبائع الأشياء بالنسبة اليه، فنقشت تاريخياً في عقول أجيال وأجيال من المسلمين أسطورة أن الدنيا ونعيمها إنما تعطى للكافر، والآخرة هي فقط للمسلم الصابر عن مسايرة الحضارة العلمية بتقدمها وتطورها، والهادم لهذه الحضارة بكل وسائل العنف، والمحلق خارج سرب هذا الكون في انتظار أن يفوز بنعيم وفردوس الآخرة.
إذا كانت نظرية المؤامرة الغربية على المسلمين في تاريخنا الحديث والمعاصر بدأت منذ إيمان الغرب بالعلم وما أنجزته عقولهم من إبداعات حضارية لا تزال في نظر بعض من المسلمين لا تعبر إلا عن «فتنة» وامتحان من الله لثبات المؤمن على دينه بالصبر على نعيم ومفاتن هذه الدنيا الزائلة، فإن ما ينبغي على أمثال هؤلاء من المسلمين في مقابل ذلك هو ضرورة الاعتراف بأن أسباب هزائمنا وفشلنا كمسلمين إنما هي من عند أنفسنا وليس من الله، «لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً»، وبدلاً من الركون فقط لتفسير ظواهر أحداث عالمنا بالنكوص دائماً إلى الوراء في انتظار الآخرة، فإن المطلوب من الآن فصاعداً محاولة المشاركة بتغيير هذا العالم من خلال البدء أولاً بمحاولة تغيير تفسيره، والخروج من عالم تحكمه ثقافة تراثية إلى عالم يعي تماماً ماهية الفصل بين الإيمان والتمدن من أجل الاستفادة المثلى من الحداثة المعاصرة، أما قيام الساعة فهو قدرٌ لا مفر منه، وسنسأل وقتها عما صنعنا كمسلمين لعمارة هذا الكون.
* أكاديمية سعودية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق