الكتاب في أصله مخطوطة عثر
المحقّق عليها بالصدفة في مكتبة آل النجّار للمكتبة الصادقية التي كانت ملحقة
بجامعة الزيتونة، وسجّلت بها تحت رقم 10503. والكتاب في أصله رحلة يصف بها التجيبي رحلته من بلده إلى
مكة بغية الحجّ، ولا يذكر لنا الكتاب تاريخ بداية انطلاقه إلى رحلة الحجّ،
لافتقادها قسمها الأوّل. وهذا
القسم من الرحلة مستوعب لمشيخته الذين عدّدهم وتحدّث عن مروياته، وما سمعه منهم
بأسانيده. وبذلك يكون الجزء الأوّل المفقود من رحلة يتضمن خروج
التجيبي من سبته إلى مصر.
واعتماداً على برنامج التجيبي كما
يذكر المحقق فإنّ الكتاب ينقصه كذلك الجزء الثالث الذي تضمّن جزءاً من بقية أخبار
الحجاز وبقية المقدس، والشام، ثم العودة. وفي البرنامج أيضاً مروياته عن علماء
هذين البلدين (1).
تسمية الكتاب
سُميّ هذا الكتاب باسم مستفاد
الرحلة والاغتراب، وهو اسم كما سمّاه صاحبه لا كما سمّاه المحقق (2). ويبدو أنّ التجيبي قد أشار في أكثر من موضع في برنامجه
في موضع الحديث عن شيوخه إلى أنّ هذه الرحلة باسم: "مستفاد الرحلة
والاغتراب"، تحديداً لمضمونها، وربما كانت هذه التسمية التي اصطلح بها عليها.
أهميّة هذا الكتاب
إنّ هذه القطعة من رحلة التجيبي
سوف تضيف بعض الإضافات للدراسات التاريخية، وتوضّح جوانب لم يكن قد أُتيح لها مثل
هذا الإيضاح، فإلى جانب ما توفّرت له من تراجم وافية لبعض الرجال الذين كانوا
بمثابة القاصدين من أبناء جيلهم كابن دقيق العيد، الذي سجّل ترجمته أيضاً معاصراه
الرحّالة العبدري، وابن رشيد، ثمّ ما تميّزت به من أنّها توثيق لسند الثقافة
الإسلامية، فهي سجلّ لمشيخة صاحبها، لخصّ فيه ما أتى عليه مفصّلاً في برنامجه، إلى
جانب هذا وغيره.
فقد توافرت ببيانات جديدة كلّ
الجدّة: فقد حدّثنا عن الساعة التي أقامها السلطان لاجين في قبّة جامع ابن طولون
على هيئة طيقان من الصفر على عدد ساعات الليل والنهار، تنفتح على حسب مبادئ علم
الحيل (الميكانيكا) (3). وهذا لم يذكره
مؤرّخ خطط مصر المقريزي في كتابه المواعظ عند حديثه عن جامع ابن طولون، والسلوك
ضمن ترجمته للسلطان لاجين.
ولعلّ من أدقّ ما اشتملت عليه هذه
الرحلة هو الوصف الدقيق الذي أفرده لطريق الحجّ من قوص إلى عيذاب، ومنزلة هذين
المدينتين في تجارة أسيا والهند التي كانت منتظمة في هذه الفترة بواسطة تجّار عدن،
الذين كانوا يعرفون بين المصريّين بالأكارم، ولهم خاص يخصّهم في مدينة قوص التي
كانت بحق مركزاً تجارياً وعلمياً متميزاً، وقد وضّح صعوبة هذا المسلك (4). وتحدّث عن قبيلة دغيم(5) التي
كانت تتولّى حمايته وشؤون سالكيه، وما يعانونه من عنت مع عجز الدولة عن ردعهم.
وإنّ الوصف الذي سجّله لعنداب
وموانيها، وحكمها من طرف ممثّل لمماليك مصر، وملك البجّة للذين يقتسمان جباتها
نصفين. والسنبوق الذي كان ينقل الحاجّ عبر بحر القلزم، بقعره المسطّح وشراعه
المتّخذ من القصب على شكل مراكب بحر الصين، ليعد من أدقّ الوثائق التي سجّلت في
هذا الموضوع.
وفي الرحلة إشارة إلى أنّ التجيبي
كان يصطحب معه رحلة أندلسيّة، فيتعقّبها، ويحقّق أهدافها، ويعتبر أنّ أوهامها
أنجرّت من تقليد العامة فيما يقولون من غير بحث عن صحّته (6).
تقسيم الكتاب
الكتاب مقسّم إلى عنوانات رئيسة
يندرج تحتها عنوانات صغيرة، وليس فيها فصول مستقلّة. وسأسير في عرضي للكتاب وفق
تلك العنوانات التي تنظم أحداث الرحلة فيها مرتبة ترتيباً زمنياً تعاقبياً. وهذه
العنوانات كانت على التوالي:
1- "ذكر مدينة القاهرة
المعزّية، حاضرة الديار المصريّة خلّد الله تعالى سلطانها وشيّد أركانها".
بعد البسملة والصلاة على النبي
يبدأ التجيبي بالحديث عن مدينة القاهرة التي يسميها المدينة المحروسة وبقوله:
"هذه المدينة المحروسة المكلوءة، هي الآن قاعدة الديار المصريّة، وأمّ
مدائنها، ودار إمارتها، وكرسي مملكتها، ابتناها واختطفها القائد الأجل، أبو الحسن
جوهر، المعروف بجوهر الكاتب" (7).
ثم يعرّف بجوهر هذا الذي كان
روميّاً، جُلب خادماً إلى القاهرة، ثم يذكر أنّ القاهرة كان قد وقع بها قبل دخول
جوهر وباء عظيم، أُحصي من مات في أيام يسيرة، كانوا في ما يزعمون ستمائة ألف،
وكانوا يلقون الغرباء في النيل، وبلغ ثمن الفروج ديناراً صحيحاً والبيضة درهماً.
وقد بناها جوهر، ونسبها إلى
السلطان المعزّ، الذي وصل إليها، واستقرّ في قصرها، الذي يسكن فيه الآن الخليفة
الأجلّ الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد العباسي رضي الله عنه وعن سلفه.
والمدينة حافلة بالأسواق، عظيمة
الترتيب، تشتمل على خلق كثير، وفيها المدارس المنيفة الهائلة، وزوجات الملوك،
عظيمة البناء، ومارستان عظيم القدر، وفيها جامعات أحدهما في الشرق وهو المعروف
بجامع الحاكم والآخر في غربها، وهو دون هذا بالكبر، ويعرفونه بالجامع الأزهر.
ولهذه المدينة عدّة أبواب، منها
باب زويلة وهو أعظمها، ومنها باب المحروق، وباب القرّاطين، وباب البرقيين، وباب
النصر، وباب الفتوح، وباب الشعرية، وباب القنطرة، وباب البحر، وباب الخوخة، وباب
السعادة، وباب الفرح. وتعلقها أبواب كثيرة، منها: باب القرافة، باب السرّ، باب
الأصطبل، ومنه يدخل السلطان.
2- ذكر بعض ما رأيناه بالقاهرة
المعزيّة حاضرة الديار المصريّة، وبإزائها من المشاهد المباركة الشهيرة:
يذكر التجيبي أنّ هناك مقام عظيم
يقال أنّ فيه رأس الشريف الطاهر الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهما الذي كان قد دُفن فيه، ويتضرعون عنده، ويتباركون به. وفي القاهرة
أيضاً مسجد البيت وحيطانه من المرمر، وفيه حجر يصف الأشخاص لمعانه. ومن المشاهد
المذكورة أيضاً روضة هائلة بخارج القاهرة مما يلي القرافة. فيها قبر السيدة
الشريفة نفيسة ابنة الشيخ السيد الشريف الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم أجمعين. فقد كانت رحمها الله تعالى فاضلة. والبناء غاية في الزخرفة
والإتقان، وعليه أوقاف جمّة، وله خدّام وقوّام، ويُروى أنّ الدعاء عندها مستجاب.
وأيضاً هناك روضة زين العابدين بن
علي بن الحسين رضي الله عنهم جميعاً، ولها من يقوم عليها، كما أنّ في القاهرة مشهد
يقال له مشهد محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما.
وينظر في أمور الأوقاف نقيب
الأشراف بالقاهرة المعزيّة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن السيد الشريف النقيب
الفاضل عز الدين بن أبي القاسم أحمد، وهو صاحب عقل ومروءة كاملة، محبّ لقضاء حوائج
النّاس.
3- "ذكر من تيسّر لقاؤه
بمدينة القاهرة المعزّية حاضرة الديار المصريّة، خلّد الله تعالى سلطانها، وحرسها
وسائر بلاد الإسلام والمسلمين آمين، من الأئمة الفضلاء الأعلام، وأعاد الله علينا
بركاتهم ونفعنا بصالح دعواتهم".
ويذكر التجيبي أسماء بعض الأعلام
الذين تيسّر له لقاؤهم في الفترة القصيرة التي مكثها في القاهرة في طريقه إلى الحج
وهم كثر منهم: أبو الفتح محمد بن الشيخ الفقيه مجد الدين أبي الحسن بن علي وهب بن
مطيع أبي الطاعة القشيري، والشيخ الفقيه بهاء الدين أبو القاسم بن عبد الله بن
سيّد الكلّ العذري، والنور بن أبي هارون، والبهاء الشافعي، والشرف ابن الصيرفي،
وابن خليفات الشجاع، والنور اليمني، والموفق الخرساني.
ويستطرد التجيبي كثيراً في ذكر
تراجم أولئك العلماء. فيذكر أخبارهم وسيرهم ومكانتهم في العلم، ويذكر لقاءه بهم،
ونزوله عند بعضهم، ويعد تصانيفهم، كما يستطرد في نقل بعض القصص بأسانيد عنهم فضلاً
عن ذكر بعض أشعارهم التي ينقل بعضها على شكل مقطوعات كاملة.
وبعد أن يمتدّ الحديث عن أولئك
العلماء ليشمل تقريباً سِفْر الرحلة ينتقل التجيبي ليحدثنا عن بعض الروضات والقبور
التي زارها في مصر وهي: روضة الإمام الشافعي، وهذه الروضة من أعظم الروضات
احتفالاً وزخرفة، وقد دُفن في قبتها مع الشافعي ابنا عبد الحكم، وهما عبد الرحمن
ومحمد, ودفن فيها أيضاً الملك العزيز أبو الفتح عثمان ابن الملك الناصر صلاح
الدين.
وفي منطقة القرافة هناك روضة
الزاهر العابد أبي الفيض ثوبان، وروضة الرحّالة أبو المعالي الأبرقوهي، الذي يذكر
التجيبي كثيراً من أخبار حياته وعلمه وشيوخه، وينقل بعضاً من مرويّاته.
4- "ذكر الجيزة":
ثم يصل التجيبي إلى قرية الجيزة،
وهي قرية كبيرة عامرة، آهلة، بها أسواق نافقة، وأرزاق كثيرة، وسوقها الأعظم يوم
الأحد، وهي من أعجب ما يُرى.
وفيها جامع حسن يتصل به مقياس هو
أحد العجائب الهندسية الذي يعتبر فيه زمن مدّ النيل وزمن فيضانه، وهو عمود رخام
مثمّن الشكل، ووفق القراءة التي يعطيها يقرّر السلطان مقدار ما يأخذه من خراج من
أهل مصر.
ثم ينتقل إلى زيارة أهرام الجيزة،
ويورد أخباراً غريبة عن بنائها، فيذكر أنّ البعض يقول إنّ إدريس عليه السلام قد
بناها، وجعلها حرز للعم والقراطيس، في حين يذكر البعض إنْ ملكين من الملوك السالفة
قد بنياها، وأنّ اسم أحدهما يثمون والآخر هرمس.
وبالمقربة من هذه الأهرام الثلاثة
يقع أبو الهول، ويقول التجيبي عنه: "رأس صورة من حجر صلد، هائل المنظر، على
صورة رأس الإنسان، غير أنّه غاية في الكبر، قد قام كالصومعة العظيمة، ووجه هذا
الرأس مقابل إلى الأهرام، وظهر إلى القبلة مهبط النيل، ويدعوه أهل مصر بأبي
الأهوال" (8).
ثم يعود التجيبي مرةً أخرى إلى
مصر المحروسة، ثم يسافر منها في مركب أكبر المراكب التي يُسافر بها في النيل، ومن
جملة ماعاينه مدينة مصر القديمة المعروفة الآن بمصر يوسف عليه السلام، ومدينة ابن
خصيب، ومدينة أسيوط، ومدينة أخميم، وهي في بلاد الصعيد المشهورة، وهي عتيقة
البناء، قديمة أزلية، وبها آثار تدلّ على قدمها، منها الهيكل العظيم الشأن القديم
البنيان المعروف بالبوبا، وفي تلك المدينة أقام مكرهاً بسبب اعتقال مركبه من قبل
المكّاسين، الذين أخذوا المكس بأشنع وأشد مما هو موجود في ديوان الإسكندرية.
وبعد ذلك دخل التجيبي ومركبه عدّة
مدن، منها مدينة المرج، وبعد ذلك وصل إلى مدينة قوص، وفيها كثير من شجر التوت
الأبيض، وكان نزوله في خان المدينة الكبير المسمّى بالفندق المكرّم، وقد اعتنى بهم
أمير البلدة، وبالغ في الحفاوة بهم. وبالجملة فأهل الوجاهة والرئاسة في هذه البلاد
يعتنون بالحجّاج، ويحسنون الظن بهم، وكذلك ملك مصر والشام والسلطان الأجل حسام
الدنيا والدين أبو الفتح لاجن المنصور. ويذكر التجيبي عدداً من علماء وفقهاء تلك
المدينة مثل القفطي كما يذكر شيئاً من أشعارهم.
5- "ذكر قرية
العبّاسة":
ثم بعد ذلك توجّه إلى قرية
العبّاسة، وهي تبعد ثلاثة أميال عن قوص المحروسة، وأقام فيها أيّامناً، حتى استوفى
جميع أهل القافلة حوائجهم، ووزن الحمّالون جميع ما احتاجوا إلى وزنه من زادج
ونحوه.
ثمّ مرّ بعد ارتحاله عن العباسة
ببلدة تسمى مسير النبي، وفي آخر ذلك النهار نزل في موضع يسمى بالدير، وهو فسيح
الساحة، وفيه بئر عظيمة يُستقى منها بالنواضح. وفي هذا الموضع قوم من نصارى القبط،
فيه جملة من متعبّداتهم وزواياهم، وتلازمه طائفة من رهبانهم، الذين يعيشون حياة
تقشّف وعبادة مضنية.
وبعد ذلك دخلوا الصحراء، وليس
فيها إلاّ القليل من الماء، وقد أصاب قافلته العطش حتى كادوا ينفقون، إلى أن عاد
جمّالو القافلة ومعهم الماء بعد أن غابوا طويلاً في البحث عنها، ويذكر التجيبي إنّ
أولئك الجمّالين قليلين، يعيشون بلا إذن على أكل وشرب الحجّاج، وهم يعيشون خارجين
على كثير من أمور الشريعة الإسلامية، وأنكحتهم غير شرعية، ولا يقيمون صلاة، وبسبب
طغيانهم وظلمهم فالسلاطين لا تجري عليهم في الغالب لانقطاعهم في هذه المغاور.
وفي تلك المغارة موضع يُدعى
حميثرا، وبالقرب منها قبر الرجل الصالح أبي الحسن الشاذلي الذي تُوفي فيها، وهو
مقصد للحجّاج، والبعض يرى أنّ الدعاء عنده مُستجاب. وبعد ذلك سادوا في طريقهم إلى
مدينة عنداب، وقد مروا في طريقهم إلى عنداب بمدن أخرى، وهي: مدسوس، صُليعة، أمتان،
توفيان، بريدان، الإحساء، سهاب، صنيفان.
6- "ذكر مدينة عنداب حرسها
الله تعالى":
ثم دخل التجيبي مدينة عنداب، وهي
على ضفة بحر القلزم، وليست بالكبيرة القطر، وأهلها قوم من البجّة السود، وأكثر
بيوتها أخصاص، وفيها آدر يسيرة مجصّصة، ابتناها التجار المدعوون بالأكارم، وهي من
أشد البلاد حرّاً. وأهل هذه البلدة الساكنون بها ينصرفون عراة رجالاً ونساءً، ولا
يوارون شيئاً غير خرق زرق، أو جلود يسترون بها عوراتهم فقط، وشعور نسائهم بادية،
ويذكر أنّهم لا يعاقبون على الزنا، ولا يُعارون عليه.
ثم بعد ذلك ركب البحر حتى بلغ
مرسىً من مراسي الحجاز الشريف يُعرف بأبحر، وهو من أحسن المراسي وصفاً، وهو شبه
خليج من البحر، يدخل في البحر، وبين هذا المرسى وجدّه ساعتين من نهار. وبعد ذلك
وصل مدينة جدّة، وأفاض في الحديث عن بنائها وأهلها ورزقها.
7- "ذكر قلّة زادها الله
تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وتكريماً، والمحفوظ من أسمائها، ووصف حدود حرقها، ونبذة
من مشهور فضائلها وفضائله":
,أخيرا وصل التجيبي إلى مكة، وهي
تقع في باطن مقدّس معظّم مشرّف محترم مكرّم، ولها جملة أسماء، منها: بلّة،
والقرية، وأمّ القُرى، والبيت العتيق، والمقدّسة، والناسّة.
ولمكة ثلاثة أبواب، هي: باب
المُعلى، باب المسفل، وباب العمرة، وحدود الحرم تختلف في القرب والبعد عن مكة
المعظّمة، وقد قيل أنّ إبراهيم عليه السلام هو أوّل من نصب حدود الحرم، ثمّ جدّدها
قصي، ثمّ لمّا كان يوم الفتح أمر الرسول صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد جدّ عبد
الرحمن بن عبد المطلب بن تميم الخزاعي، فجدّدها.
وفضائل الحرم الشريف وقلّة
المعظّمة أكثر من أن تُحصى، ولم يزل الحرم قطّ معظماً في الجاهلية والإسلام، ومكة
شرّفها الله تعالى من خير أرض الله. ويورد التجيبي الكثير من القصص عن تعظيم
العامّة والخاصة لمكة.
8- "ذكر مسجد قلّة المعظّمة،
ووصف الكعبة المحترقة، والمشهور من أسمائها، ومن ابتدأ ببنائها، وذكر الحجر
الأسود، وأنّه يبعث يوم القيامة وله عينان، وذكر الملتزم، والحجر، والمنداب،
والركن اليمان، وفصل الطواف بالكعبة، والنظر إليها، وذكر زمزم، والمقام، وغير ذلك
من المواضع الشريفة التي اشتمل عليها المسجد الحرام":
كان المسجد الحرام صغيراً قبل
الإسلام، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كبر، ثم استمر ذلك على يدّ الصحابة
والسلاطين والخلفاء. ويذكر التجيبي في معرض ذلك يد كلّ واحدث منهم في ذلك ، وما
نقله من عناية بالحرم.
وللحرم أبواب كثيرة، منها: باب
الندوة، باب دار العجلة، باب السدّة، باب الحَزوة، باب العمرة، باب إبراهيم، أبواب
أجياد، باب القائد، باب العبّاس بن عبد المطلب، باب علي بن أبي طالب. أمّا الكعبة
فهي قريبة من التربيع، ولذلك سُمّيت كعبة، والتكعيب التربيع، وكلّ بناء مربّع
يسمّى كعبة. ويُقال إنّ الله وضعها قبل خلق الدنيا، أو إنّ الملائكة بنتها، أو إنّ
آدم عليه السلام بناها، وقد انهدمت بعد أن بناها إبراهيم عليه السلام دهوراً، وقد
بنتها قريش على يد كلاب بن مرّة بن قصي.
وفي الحرم الحجر الأسود، والحجر
مصدّع مكسور ملصق بالبضّة، وهو مقدّر مقدّس يقبّله الحجاج من استطاع إلى ذلك
سبيلاً بين جموع النّاس، أمّا الحطيم فهو ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر حيث
ينحطم الناس يعني الدعاء. وقبل كانت الجاهلية تتحالف هناك، وينحطمون بالإيمان.
ويذكر التجيبي بعد ذلك فضائل كثير
من الأماكن في مكّة بعد أن يصفها،ويورد القصص عنها، مثل الحجر والميزان ومقام
إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وقبر زمزم وفضائلها، وكذلك جبل ثور، ومنى، وجبل
جراء.
9- "ذكر ما تيسّر لقاؤه
والأخذ عنه بالبلد الأمين قلّة المعظّمة، زاده الله تشريفاً وتعظيماً، وأعاد إليها
على السّنة في ذلك من أهلها والطارئين عليها، أمتع الله بحياتهم، وأعاد علينا من
بركاتهم، ونفعنا بصالح دعواتهم": منهم العماد أبو الحسن المكي، أبو الحسين
المكي، أبو إسحاق إبراهيم الطبري، والفخر أبو عرو وعثمان التوزري، والعفيف أبو
محمد عبد الله الدّلاصي، ونجم الدين العجمي، الشمس أبو عبد الله الجيّاني، وأبو
عبد الله بن مطرّف، وأبو محمد الهروي، وأبو علي النجّار.
10- "إحرام الكعبة":
وهذا العنوان هو آخر عنوان في
سِفرْ الرحلة، ويقول التجيبي إنّه في هذا اليوم اجتمع زعيم الشيبيين مع خلق كبير
من أهل مكّة، حتى لم يتخلّف منها سيداً أو وجيهاً أو صغيراً أو كبيراً. وكان قد
نقل إلى الكعبة ماء زمزم المباركة، فغسلوا البيت المطهّر الشريف، ثم جمّروه، وأغلق
زعيمهم الباب المكرّم، ثم لم يفتحه حتى وصل أمير القافلة المصرية، وهكذا جرت
عادتهم بذلك على مرّ السنين.
ثم جعل الشيبييون ما قطعوه من
كسوة الكعبة قطعاً للغرباء الواردين عليهم، وكذلك يفعلون بسائر الكسوة إذا نزعوها
يوم النّحر، وهذه الكسوة يُؤتى بها الآن من مصر من قبل ملكها، وبلغنا أنّها كانت
في زمن أميري المؤمنين عمر وعثمان –رضي الله عنهما- يأتي بها من مصر أيضاً.
ثمّ في اليوم الذي يليه اغتسل
التجيبي وصلّى تحت الميزاب، وأحرم لله تبارك وتعالى لحجّة مفردة، وفي ذلك اليوم
ضلّ عنه جمله، وكان عليه زاده، ثمّ يسّر الله له أن يلقاه في عرفات، وبذلك قدّر له
أن يحجّ من قلّة إلى عرفات راجلاً ماشياً، ورحل في آخر ذلك اليوم اضطراراً لا
اختياراً مع الأمير المصري ...
وبهذا الخبر انتهى الكتاب.
ملاحظات على محقّق
الكتاب عبد الحفيظ منصور
1- كتاب "مستفاد الرحلة والاغتراب"
كتاب ضخم جداً يقع كما ذكرنا آنفاً في 570 صفحة من القطع المتوسط، وقد نقله عن
مخطوطة واحدة، ولا شك أنّ تحقيق مخطوطة كبيرة إلى هذا الحدّ لهو جهد مشكور، وفضل
مذكور في خدمة آداب العربية، وبعث ما اندثر أو كاد منها، فالمحقق يذكر له الفضل،
ويُشاد بعمله المضني، جعل الله به الأجر والرحمة.
2- والمحقّق ألحق بالكتاب طائفةً
ضخمة من الحواشي التي تدعم وتفسّر ما يرد في المتن من أسماء وأماكن وأعلام ووقائع
ومصنفات، وهو كما يذكر في مقدّمة الكتاب قد بذل الكثير من الجهد في سبيل ذلك.
3- والمحقّق يشكر له ذلك الصدق
وتلك الدقة والأمانة في التحقيق، فهو كثيراً ما يورد في الهامش أنّه لا يعرف ما هي
الكلمة الساقطة أو الضائعة في مكان ما وإن كان يحاول أن يقدّر أو يذكر ما تكون،
وبذلك لا يسمح لنفسه بكتابة ولو كلمة واحدة ليست موجودة في المخطوطة.
4- كما أنّ المحقّق تكبّد مشقّة
إلحاق فهارس مفصلة ودقيقة للكتاب متضمّنة: فهارس الأعلام، وفهارس الأماكن، ومن ثمّ
مصادر الكتاب. وهي بحق فهارس مفيدة في الولوج إلى عالم الكتاب.
ملاحظات على جهود
التجيبي في كتابه
1- لغة الرحلة لغة سهلة أنيقة،
تراوح ما بين السجع وعدمه في كثير من المواطن. والملاحظ على لغة التجيبي أنّها
تقترض من مفردات البلد التي يصفها، فمثلاً عند حديثه عن المقابر في القاهرة سمّاها
كما يسميّها المصريون (القرافة).
2- التجيبي يتدخّل كثيراً في
النّص الذي يكتبه وفي المشاهدات يلتقطها بقلمه بدقّة، فمثلاً عند حديثه عن كثرة
عدد سكان القاهرة يحاول تعليل ذلك بأن الخليفة العباسي لما استقر فيها، حلّها
الأمراء والأخبار وأرباب الصنائع، وأهل الأموال والبضائع والذخائر. واستقرّ بها
الفضلاء، وحلّها النبلاء، وصارت داراً ومقرّاً للراحة، وكثر علماؤها
وفضلاؤها (9).
3- ويذكر للمؤلف أنّه ينقل
مشاهدته بدقة شديدة وحيادية واضحة، وهو موهوب في التقاط أدقّ الجزئيات وفي
تصويرها.
4- وثقافة التجيبي الواسعة تتجلّى
في كتابه هذا، فهو فضلاً عن أنّه يكرّس جلّ رحلته وكتابه لوصف لقائه بالعلماء،
فإنّه يمدّ كتابه بكثير من التفاسير والآراء والقصص التي تعرّف بثقافته الواسعة
بين لغة وقرآن وفقه وتاريخ وتراجم.
5- ومنهج التجيبي في كتابه منهج
وصفي تحليل يأخذ كذلك من معطيات المنهج التاريخي، وهو في كلّ ذلك يتوخّى الدقة في
ما ينقل وفي ما يكتب. وعندما ينقل معلومة عن غيره، فإنّه يلتزم بتوثيقها في متن ما
يكتب فمثلاً عند حديثه عن ابن طولون يذكر أنّه قد نقل ما يكتب عن تاريخ الحافظ أبي
القاسم ابن عساكر الدمشقي (10). وكثيراً ما
يعزو ما ينقله إلى المؤرخين، ويذكر اختلافهم في الرأي، فمثلاً عند حديثه عن سبب
بناء الهياكل في إخميم في أسيوط في مصر، فقال البعض إنّها بنيت على يد أمّة مجهولة
لكي تحفظ علومها من الضياع، فجعلته على الحجارة، في حين يذكر البعض إنّ ملك مصر
الملك أقّ هو من بناها لنقش علوم عصره عليها؛ لمنعها من الضياع (11).
6- والتجيبي حريصٌ في كتابه على
أن يبتعد عن الخرافات التي أخذ على الرحالة من قبله التورّط فيها، فمثلاً عند
حديثه عن السيّدة نفيسة ينقل إنّه يُروى أنّه يتبرّك به، وإنّ الدعاء عندها مستجاب
ولا يجزم بذلك (12). وفي حديثه عن سبب عدم
وجود التماسيح في أحد الجزر المحيطة بالجزيرة ينقل إنّ ذلك بسبب طلسمات موجودة على
رخام في تلك الجزيرة، وأنّ أي تمساح يقترب منها ينقلب على ظهره، ثم لا يجزم بصحة ذلك
بل يقول: "والله أعلم بحقيقة ذلك" (13).
7- والتجيبي كثيراً ما يستطرد في
ما يكتب، وإن كان في كثير من المرات يحاول أن يعود إلى الحديث الذي بدأ به ويقول:
"وقد خرج بنا القول عن مقصدنا، فلنعد إلى فلنعد إلى ما كنا
بسبيله" (14).
8- وفي كتاب "مستفاد الرحلة
والاغتراب" نفسٌ نقدي واضح لكثير من مفاسد ومثالب الأماكن التي زارها، فهو
مثلاً ينتقد أخذ المكوس على السفينة التي كان يركبها في أخميم، ويدعو إلى أن ترفع
عن المكوس المسلمين (15). كما أنّه في موقع
آخر من الكتاب يندّد بجمّالين الصحراء الذين يستغلون الحجّاج ويتسلّطون على مائهم
وطعامهم، ويخرجون عن العقيدة، ويسقطون دون حرج في الحرام(16).
9- والكتاب غنيٌّ ببيانات جديدة
كل الجدّة: فقد حدّثنا عن الساعة التي أقامها السلطان لاجين في قبّة جامع ابن
طولون على هيئة طيقان من الصفر على عدد ساعات الليل والنهار، تنفتح وتنغلق حسب
مبادئ علم الميكانيكا (17).
وبعد، فهذا عمل ضخم يحتاج إلى
مزيد من الدراسة والتحليل متحلين بروح الفخر بأولئك الأوائل الذين تركوا لنا ثروة
تراثية ضخمة، تثري معارفنا وعصرنا.
الهوامش:
(1)
التجيبي، القاسم بن يوسف التجيبي السّبتي، ت 73هـ: مستفاد الرحلة والاغتراب، تحقيق
عبد الحفيظ منصور، ط1، دار الكتب العربية للكتاب، تونس، 1975، ص خ.
(2) نفسه: ص خ.
(3) التجيبي: مستفاد الرحلة والاغتراب، ص7.
(4) نفسه: ص205.
(5) نفسه: ص201.
(6) نفسه: ص11.
(7) نفسه: ص1.
(8) نفسه: ص167.
(9) نفسه: ص3.
(10) نفسه: ص6.
(11) نفسه: ص170-171.
(12) نفسه: ص11.
(13) نفسه: ص165.
(14) نفسه: ص7.
(15) نفسه: ص171.
(16) نفسه: ص202.
(17) نفسه: 164
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق