الاثنين، 30 يناير 2012

نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس لأحمد بن عبد القادر القادري



نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس لأحمد القادري[1] (ت 1133)
وهي رحلة حجازية سجل فيها أحمد القادري أحداث رحلة شيخه أبي العباس أحمد ابن مَعَن إلى الحج عام 1100. وكان قد سبق للقادري أن حج عام 1083 واستفاد أثناء إقامته آنذاك بمصر من شيوخها، فقرأ عليهم واستفاد منهم.
وخلال هذه الرحلة يتتبع القادري تسجيل المراحل التي يقطعها الشيخ ابن معن، والوفد الكبير المرافق له، ويصف نشاطه في الطريق، وأثناء تأدية مناسك الحج. ويتحدث عمن لقيه من الرجال أو من تبرك به من الرجال علماء أو صلحاء، أحياء وأمواتاً. ولما كانت الرحلة من إنتاج أديب سبق له ممارسة الأدب، فقد اهتم القادري بهذا الجانب في كتابة الرحلة، فَجَوّد أسلوبها وحسّن صياغتها. وأضاف إليها من النصوص الأدبية والشعرية المناسبة التي أنتجها خلال المواقف التي واجهها، أو من النصوص الأدبية التي عرضت له. فكانت بذلك تمثل نصا أدبياً جيداً يرسم أسلوب الكتابة الفنية عند أحمد القادري، ويحدد مستواه الأدبي فيها.

تحليل : نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس
        لأحمد بن عبد القادر القادري (ت 1133).


نسمة الآس[2] في حجة أبي العباس لأحمد القادري[3] (ت 1133)
تنطلق الرحلة بتحديد الهدف الذي يرمي إليه صاحبها بقوله: "وبعد... فقد أردت أن أذكر في هذا التقييد بعض فوائد من أخبار سيدنا ... أبي العباس أحمد ... الشهير بابن عبد الله نزيل المخفية من عدوة فاس الأندلس، في توجهه للحجاز، وحجته المبرورة المعتبرة، وزيارة المدينة المشرفة المنورة، وما بها من الأماكن المباركة المشتهرة، وما وقع له من ذلك بالمدن والطريق، وحاله مع كل ملازمه أو رفيق"[4].
ولذلك فالرحلة في أساسها تخص الشيخ أحمد بن عبد الله بن معن. تتبع مراحل تنقله في سفره إلى الحجاز، وتسجل نشاطه في هذه المراحل، ومواقفه في الطريق مع رفقائه، ومع من يلقاه فيها من الجماعات والطوائف. وقد غيب هذا كثيرا حديث المؤلف عن نفسه، فلا يتناولها إلا بصيغة الجمع، وضمن الجماعة التي تتحرك مع تحرك الشيخ ابن معن. وقد أدى هذا إلى أن تكون الرحلة وموادها، وصفا مفصلاً لأعمال أحمد معن في توجهه إلى المشرق، ورصداً لتحركاته والوفد الكبير المرافق له.
وللرحلة الوفدية هذه أشباه كثيرة في هذا العصر، رغم تفاوت طبيعة كتابها، ونوعية الوفد الذي تسجل حركاته، ومقدار فاعلية الكاتب للظهور بين ثنايا مواد رحلته.
فرحلة أحمد بن ناصر، ورحلة أبي العباس الهشتوكي أحزي، ورحلة اليوسي الابن، ورحلة الإسحاقي بُعَيْدَ وفاة المولى إسماعيل، هي كلها رحلات وَفْدٍ، تمثله جماعة تتحرك بقصد معين، ودافع محدد[5]. وإذا كانت رحلة اليوسي والإسحاقي قد مثلتا وفدا أميريا، كان في الأولى مع الأمير المعتصم ابن المولى إسماعيل، وفي الثانية مع خناتة بنت بكار زوجة السلطان إسماعيل، وأم السلطان وقتها المولى عبد الله، وبرفقتها حفيدها محمد بن عبد الله السلطان فيما بعد، فإن رحلتي أحمد بن ناصر، وأحُزِي تتحدث عن وفد يمثل أهل زاوية معينة، هي زاوية بني ناصر، يرحل برفقة شيخها، أحمد بن ناصر، وضمن الوفد عديد من أقارب الشيخ، وأصحابه وأتباعه. غير أن رحلة أحمد بن ناصر يكتبها الشيخ نفسه. وباعتباره محور وفده، فقد بات حضوره واضحا بين مواد كتابه. وهو أمر يقل ظهوره نسبيا في رحلتي أحُزي الحجازيتين.
وتشبه رحلة نسمة الآس هذه الرحلات المتحدث عنها، في كونها تتحدث عن وفد يمثل الزاوية الفاسية بالمخفية، فيرحل هذا الوفد برفقة شيخه أحمد بن معن. ويتبين مقدار ما يرحل به هذا الشيخ، حينما نجده في مصر يكتري نحو مائة جمل ليحمل عليها ما يحتاجه هو ووفده من زاد وأقوات[6].
وكان ضمن هذا الوفد من الشخصيات المرافقة للشيخ ابن معن، قريب الشيخ: عبد الرحمن ابن علي المَقْنِي، والفقيه أبو بكر بن محمد البكري الدلائي، ومحمد العربي القادري، وأحمد القادري كاتب الرحلة، ومحمد بن عبد الرحمن الصومعي الزمراني، وكان إمام الوفد في الصلوات، وغيرهم كثير ممن انضم إلى حاشية الشيخ ابن معن من أتباعه وأشياعه[7].
وتنطلق الرحلة بالحديث عن تأهب الشيخ واستعداده للرحيل بتيسير الأسباب وتهييء الاحتياجات. ثم كانت بداية الرحلة بالفعل، وقد خرج الشيخ من فاس "خفيةً من جميع الناس، إثر صلاة الصبح من يوم الجمعة بعد مضي الركب بأربعة أيام في مطير، وبرد كثير"[8].
وكان وصوله إلى مدينة تازا عشية يوم الاثنين، حيث كان الركب مقيماً بها خمسة أيام. وقد حجزه عن متابعة السير حاجز المطر، "إذ كانت تلك الأيام مع لياليها... كثيرة البرد غزيرة الأمطار، هائلة الأمر عظيمة الأخطار، لا يستطيع أحد السفر فيها ولو طار، ولا يمكن أحدٌ معها قضاء الأوطار"[9].
وأقام الشيخ في تازا مدة رثيما يصفو الجو وتقلع الأمطار، وقد انفرد عن الناس في ضيافة قاضي تازا في داره أبي الحسن علي بن عبد الله طيلة تلك الأيام. وبذلك "قطعت عن سيدنا العلائق، وحبست عنه العوائق، وأراحته من الخلائق، حتى لا يدركه منه لاحق"[10].
وما كاد يسري بين الناس خبر وجود الشيخ في ركب الحاج، حتى عمت البشرى بينهم، وأقبل الجميع يتسابق إلى التسليم عليه، والتبرك بلقياه، "وظهر في الركب السرور في الحين، وباب الناس به منشرحين. وكانت أنوار تلك الليالي ظاهرة، ونجومها في الأفق زاهرة. فقلت[11]:
ليالي وصال الحب ليس لها مثل
توالت لنا السراء من كل جانب


وكل صعيب الأمر من أجلها سهل
وحفت بنا النعماء، وانتظم الشمل"

ويركز القادري في أكثر من مرة على هذا الموقف الذي يتكرر كثيرا، فيبادر الناس إلى لقاء الشيخ وإبداء الفرح بالسلام عليه، كما فعل أهل عين ماضي حين لقائهم بالركب والسلام على الشيخ والاحتفاء به، وبخاصة منهم الفقهاء وقاضي البلدة الذين طلبوا من الشيخ الدعاء الصالح لهم[12].
وكذلك حين خرج من القاهرة صحبة الركب المصري "والناس في فرح وسرور، وزهو وحبور. لهم حنين واشتياق، وهيام بين تلك البوازل والنياق. وخرج سيدنا يومئذ على بغلته الخضراء، والناس حافون أمامه ووراء. فكأنه ياقوتة في عقد جوهر، أو بدر بين نجوم تزهر، وقد قلت:
إذا اكتحلت عيناك منهم بنظرة
وإن تدن من ذاك البساط وحسنه


رأيت وجوهاً كالبدور وأملحا
فلابد أن تتلو: تبارك والضحى"[13]

وإذا كان ما يثيره موكب احتفاء الناس بالشيخ في مختلف مراحل الرحلة يبدو أمرا عاديا، فإن الحديث عما خلفه غياب الشيخ عن فاس من أثر في أتباعه، لشدة الشوق إلى رؤيته، وازدياد الوحشة إلى لقائه، قد خلق نوعاً من التوازن بين فرح اللقاء والرفقة، وبين فرح الغياب والفرقة. ولذلك تعمد الكاتب أن يورد نص رسالة الأديب أحمد بن عبد الوهاب الوزير[14]، وقد صلت إلى الوفد بعد الخروج بمدة، يصف فيها شوقه إلى الشيخ وزمرته، ويشكو فيها ما يعانيه هو وأهل فاس من غربة، "غربة والله أي غربة، خلفتنا في كربة، وضيق وحشة، وغمرة ودهشة. فلولا أني أتقوت بما كتب لي وأوصى لي، لتمزقت من فراقكم أوصالي، وأتنفس الصعدا، وأود لو كنت من ذلك الفريق فريق السعدا. يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزراً عظيما... وكيف لا وقد... توالت عليكم الأفراح، وعلى غيركم الهموم والأتراح. فلو اطلعتم على الناس، وما لقوا من بأس، في غيبة ضيفنا أبي العباس، لهالكم ذلك... حتى قالت الناس الأشعار من الموزون والملحون، وحتى صار للدندانون وأهل الموسيقى حيث كانوا إنما يذكرون هذا المعنى من الرحيل والفراق، والبعاد والاشتياق"[15].
ويهتم القادري ولو بصفة مختصرة بالحديث على مراحل الرحلة ووصف طرقها ومسالكها، مرحلة مرحلة، منذ مغادرتهم تازا إلى مصر. ومنها إلى الحجاز، ذهاباً وإياباً. وهو ما اعتدنا أن نصادفه في أكثر الرحلات التي اتخذت طريقها في البر. وكعادة القادري في كتابته يلتزم السجع أيضا حين يتحدث عن هذه الطريق ويصف ملامحها. وهكذا يذكر عن إحدى المراحل التي أعقبت تازة قبل الوصول إلى عَيْن ماضي: "ثم من الغد رحلنا وخلفنا العمائر والقرى، ودخلنا فسيح الظهرا، نسلك تلك المهامه الفيح، المكتسية بالحلفاء والشيح، لكن منظرها مليح، وهواها صحيح، وبها الوحش يستريح. فيها النعام والحمر والبقر والمهاة، وأنواع شتى من مصيد الحيوانات. ومن غدا بها، أورادها، يلائم طبعه هواها"[16].
وضمن الاهتمام بوصف الطريق ومراحل التنقل، ينقل القادري وصفا فريداً للركب المصري والطريقة التي يسير بها، والنظام الذي يتبعه في ذلك. وقد جرت العادة أن ينظم الركب المغربي إلى الركب المصري، فيرافقه ذهابا من مصر إلى الحجاز، وإيابا من الحجاز إلى مصر. ويحرص الركب المغربي في رحلته من المغرب أن يصل إلى مصر قبل موعد انطلاق هذا الركب، فيكون للناس فسحة من الوقت للتزود والاستعداد لقطع مهامه بداية الحجاز فيما بعد.
وإذا كانت أكثر الرحلات المغربية المكتوبة قد اكتفت حين الحديث عن الركب المصري، بوصف احتفال الموكب الذي يصحب معه كسوة الكعبة، وكيفية خروج المحمل من مصر، واحتفاء الناس به، وتجمهرهم للتفرج عليه لحظة خروجه من مصر، فإن ما تنفرد به نسمة الآس يقوم على ملاحظة الطريقة التي يتحرك بها الركب المصري، والتركيبة التي تمثل جهازه، والنظام الذي يسود فئاته، والأعراف التي تتحكم فيه وبين طوائفه.
فالركب المصري يرتب حسب مستويات فئاته، ويلزم فيه الناس مواضعهم، "شريفهم ووضيعهم، لأن الركب المصري له زي معلوم، وشكل موسوم، في حال سيره إذا سار، وحال المقام في الديار. فكانت هيأة الركب في سيره أربعة صفوف، وذلك أمر معروف. ولهم قيم في كل ما خُطَّة، يقوم بها كل شيلة وحَطَّة. وهم أمير الركب، والقاضي ويدعى قاضي المحمل، والحاكم ويسمونه الكيخيا، والدويدر، وهو الذي يتفقد أحوال الناس في سيرهم، وصدّار الصند، وهو الذي يحمل مال الحرمين الشريفين ويحوطه. وسقّاء باشا، وهو أمير السقائين. وصدّار القطار، وهو الذي يرتب القطارات. والدليل وهو الذي يسير في أول الركب ويدلهم على الطريق، وغيرهم ممن يطول وصفهم، وتعدادهم، وذكرهم وتردادهم"[17].
وعادته في السير أن يسير الليل كله ويقيم بالنهار، ويبتدئ الرحيل عند الظهر. فإذا انفصل الناس عن أماكنهم وقفوا ينتظرون ترتبهم في مسيرهم، حتى تأتي كل جماعة موضعها، ثم يسيرون إلى وقت العصر. فيقفون مقدار ما يصلّى فيه العصر بشروطه. ويسيرون إلى المغرب، فيقفون مقدار ما تُصلّى فيه، ويتعشى الناس. ثم يتابعون السير إلى أول الثلث الأخير من الليل، حيث تحط الرحال للاستراحة والنوم.
ولا يختار الركب محل نزوله للاستراحة إلا بعد أن يسبقه الدليل وجماعته، قبل أن يصل الركب، فيختارون المكان المناسب للمبيت، فينصبون الخيام ويسرجون النور والقنادل، ويهيئون ظروف النزول والاستراحة[18].
وقد مرت المراحل تباعا برفقة الركب المصري في بادية الحجاز دون صعوبة تذكر، إلى ميقات الإحرام، فالدخول إلى مكة. لتبدأ مناسك الحج.
ويحاول القادري وهو يتتبع شيخه ابن معن في قضاء المناسك أن يركز على المواقف المثيرة، وما تحدثه من انفعال في نفس شيخه، والمرافقين له، بما فيهم القادري مؤلف الرحلة. فهو يقف عند لحظة إحرام شيخه، وخروجه على الناس بصفة الإحرام، ملبياً وداعياً، فينفعل الحاضرون للموقف، ويتأثر المؤلف فيندفع في صفة مؤثرة لينشد في ذلك شعراً[19].
ويتكرر هذا الموقف التأثري في لحظة القدوم على مكة، ليستحضر مشهدها بقداسته ومعالمه وتاريخه، ما يتحرك به وجدان المشاهدين والقادمين إليها، فيفجر ذلك في وعي المؤلف ما يعبر به شعراً في قوله[20]:
هنيئاً لمن أمسى وأصبح بالحرم
وطاف بذاك البيت قرباً لربه


وقام به عند المقام وملتزمْ
وإن مر بالركنين قبَّل واستلمْ

  وينفعل المؤلف أيضا عند لحظة الوقوف بعرفات، ليتمثل لـه هذا الموقف الهائل، وقد احتشدت إليه الجموع الكثيرة من المسلمين، بما فيها سلطان مكة بحشمه وحاشيته وعسكره، ومختلف الركاب التي قدمت للحج، منها: "الركب اليمني، والشامي، والبصري، والمصري والفاسي والقسنطيني..."[21] يوحدها هول الموقف، ورجاءُ الإنابة، وخشوع المتبتل. فينشد في ذلك شعراً يصف فيه ذلك، منه قوله[22]:
عشية ذاك اليوم ليس لها مثل
لقد قامت الأقوام في عرصاته
....
عباد قيام راغبون لربهم


على سائر الأوقات، حق لها فضل
لدى عرفات الجمع، يجتمع الكل

بعزم وإلحاح، والأعين تنهل

ويتكرر أيضا هذا الموقف الانفعالي عند الشيخ ابن معن، ومعه المؤلف أثناء الطواف، وبخاصة عند الدخول إلى الكعبة المشرفة حيث أدركهما هول الموقف، فقال القادري منشداً[23]:
وقال لي منشداً بداخل الحرم
لا تعجبوا من عظم الجود والكرم


لما رأى من توالي الخير والنعم
وهل يقال لفضل الله ذا بكم

ويتجدد هذا الانفعال حين وصلوا إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، فينفعل المشاهدون، ويغمرهم الشوق، وقد أطلوا على معالمها، وبدت لهم مغانيها. لحظتها "طارت القلوب من الفرح والسرور، وأسرعنا لما دنت تلك المباني والقصور، فأشرفنا على المدينة المنورة، وتراءت لنا معالمها المصورة. وقد قلت[24]:
ولما رأينا طيبة وبدا لنا
ومدت خطاها العيس تسرع للقا


معالمها طارت قلوب من الفرح
ومال بها الحادي إلى الوادي وانشرح

 ويكبر هذا الانفعال ويصل قمته حين تتم زيارة الروضة النبوية، ويواجه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فتفيض فيضة الشيخ ابن معن، ويحصل له من الخشية والخشوع ما يخرج به عن طوقه، ويفقد شعوره، آنذاك يحتويه بعض مرافقيه في الزيارة، وهو أبو العباس أحمد السلوي الأندلسي علام الركب المغربي، فيضم الشيخ إلى حضنه، ويأخذ به ريثما يعود إلى وعيه[25]. ويحصل للمؤلف في هذا الموقف انفعال شديد، ويغشاه هول اللحظة، فيتحدث على لسان شيخه. "وقد قلت نائبا عنه[26]:
سمح الحبيب بوصله فأباحني
مأوى النبوة داره وربوعه


نظر الجمال الكامل الرباني
وقراره المملوء بالإيمان

ولم تخل الرحلة من تتبع نشاط الشيخ ابن معن في الحجاز، وهو يزور المعالم المقدسة والآثار المتخلفة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة. وقد كان دليله في ذلك مرافقه الفقيه المجاور نادرة الزمان أحمد بن عبد الرحمن الحسني السجلماسي[27]. كان قد مضى على مجاورته بالمدينة المنورة أربع عشرة سنة. والملاحظ أن المؤلف وهو في غمرة الحديث عن المناسك، ووصف معالمها الأثرية، يحاول أن يستحضر التصور الفقهي لإجراء هذه المناسك، والمراجعات التي أثيرت حولها في كتب الفقه ومصنفات المناسك والحج والعمرة. ولذلك كان يستحضر معه الوعي العلمي، وهو يمارس الحج، ويؤدي مناسكه، فينقل عن الشيخ خليل، وعن زروق في تحفة المريد، وغيرهما[28].
ويحدث نفس الموقف حين يزور المعالم الأثرية، أو يقف على بعض المعالم المقدسة، فيستحضر صورتها من خلال كتب السيرة، ويورد وصفها من المصنفات التي اختصت بتواريخ مكة والمدينة. لذلك يتكامل وصف هذه المعالم من خلال المشاهدة الواقعية أولا، ومن خلال الصورة القدسية التي تحملها ثقافة المشاهد ويتمثلها وجدانه ثانيا، ومن خلال الوجود التاريخي الموضوع في كتب السيرة والمصادر والمصنفات ثالثا.
وتبدأ رحلة العودة برفقة الركب المصري بتاريخ خامس محرم عام 1101[29] ويكون الوصول إلى مصر في سابع صفر من نفس السنة. فكانت غيبته عن مصر منذ فارقها في الذهاب مائة يوم[30].
وفي مصر أقام الوفد مدة طويلة طلبا للراحة بعد تعب الرحلة المضنية في بوادي الحجاز، "إذ مهامه الحجاز سيما في هذا الأوان منحلة للأجسام والأبدان، مذيبة للحم، مجفة للدم، فله صولة صائلة، وصدمة هائلة، وخاصية خص بها، وشيء جعله الله فيه، إذ طلب الشيء العزيز، مثل الياقوت والإبريز، لا ينال إلا ببيع الأجسام والرؤوس، وإتلاف المهج والنفوس، لاسيما من هو أنفس من كل نفيس وأغلاه، وأكبر مما خلق الله وأعلاه، بيت رب العالمين، وضريح سيد المرسلين، وقد قلت:
إن كان مشيي لبيت الله والحرام
ببذل مالي وإنحافي وجف دمي


ورؤيتي ربع خير العرب والعجم
فما غلت نظرة منكم بسفك دمي

فالقادم من الحجاز إلى مصر، كالمولود الذي خرج من بطن أمه إلى الوجود، فمصر أول البلدان المصلحة للأبدان، ففيها راحة للحجاج، ودواء لهم وعلاج"[31].
وتمثل مصر والإقامة بها، المرحلة الأمه بين بقية مراحل الرحلة الحجازية، بالنسبة لأكثر الراحلين إلى الحجاز من المغرب. فتبرز مصر بمدنها الشهيرة، وأزهرها الشريف وجالسه العلمية، وشيوخ التدريس به والتأليف، ومدافن القرافة من الأعلام العلماء والصلحاء، زغيرهم – بصورة واضحة فتحتل حيزاً مهما في رحلات المغاربة المكتوبة على الدوام.
لذلك كان للشيخ ابن معن نشاط كبير أثناء إقامته بمصر في الذهاب أو الإياب. وقد امتدت إقامته بها عند الإياب أربعة أشهر. وتمثل هذا النشاط في زيارة قبور العلماء في قرافة القاهرة. فزار قبر أبي الحسن الششتري رفقة أحد أحفاده، وأنشده من أشعار جده، فسجل القادري في نسمة الآس قصيدة منه، مطلعها[32]:
قد كسا في لباس سقم وذلهْ


حب غيداء بالجمال مذلهْ

وزار قبر الإمام الشافعي[33] وغيرهما. وصادفه المولد النبوي في مصر، فأقام الاحتفال به حيث اجتمع عليه الناس، فأنشدت فيه الأمداح، وأنشئت فيه القصائد والأزجال[34]. وخلال مدة إقامته بمصر كان يعقد مجالس الوعظ والتذكير، يحلق عليه من رفاقه في الوفد الحجازي، ومن غيرهم من أهل مصر وعلمائها[35]، الذين كانوا يفدون على بيت الشيخ للزيارة، والسلام عليه، والتبرك به4.
وبعد أربعة أشهر من الإقامة بمصر يتحرك الشيخ ابن معن، ووفده، صحبة الركب المغربي الذي كان يتركب من ركبي فاس وسجلماسة، للعودة إلى المغرب. وهكذا تبدأ مراحل الإياب. ومنذ مغادرة مصر ركب بعض الوفد السفينة في البحر، بينما ظل الشيخ ابن معن على البر، هو وأتباعه، "والخبير والعلام والفرسان وأهل البغال"[36]، يسيرون بمحاذاته على الشاطئ. فتارة يقربون من السفينة، وتارة تبعد عليهم5. وفي الطريق وفي معطن التميمي أدركهم الركب القسنطيني الذي ظل يرافقهم أيضا[37]. وفي طرابلس التقى بركب الحاج المغربي القادم من المغرب، وكان به الوفد الأميري المرافق للأمير المعتصم ابن المولى إسماعيل[38]. كما كان به العلماء الحسن اليوسي، وولده امَحمد كاتب رحلة والده. وقد ذهب الشيخ ابن معن إلى حيث ينزل الشيخ اليوسي لزيارته والسلام عليه، وقد تلقاه الحسن اليوسي بترحاب كبير[39]. وقام الشيخ ابن معن بزيارة مجاملة للأمير المعتصم7 ولقاء أمير الركب المغربي: عمر بن هاشم الحسني السجلماسي، ومحمد الحسيني، وكانا معا أميري الركب في نفس الوقت[40].
وفي طرابلس لقي من علمائها وصلحائها محمد بن سعيد الجماعي الهبري[41]. ومنذ الدخول إلى براري برقة، والمؤلف القادري يحاول أن يصوغ قصيدة مطولة، يمدح فيها الشيخ، ويصور مراحل الرحلة وآثارها. وهي "قصيدة رائقة، لمعانٍ فائقة، ذكرت فيها ما رأيت في الحال، والسير والترحال، من تلك الخيول والعدة، وأهل العزم والشدة، والمركب والبوازل، والهوادج والرواحل، والذهاب على ذلك البساط الأخضر، المطرز بأنواع الأزهار مثل الياقوت والجوهر[42]:
لله ركب سائل كالوادي
كسيت به تلك المراتع والربا


متلاطم بحواضر وبواد
فجماله فوق البسيطة باد"
 
وفي مدشر المخيلي كان افتراق الركب. فذهبت طائفة إلى سجلماسة عن طريق فجيج، بينما تابعت الطائفة الأخرى مسيرها نحو فاس[43].
وعند العودة إلى فاس، وفي تازة، حاول المؤلف أن يصور الفرحة التي لقي الناس بها الشيخ، حتى إنه قد ذكره الموقف "ببيعة الرضوان، وكلهم من رسول الله ملتمس ..."[44]
وكان في استقباله قبل فاس بمراحل، ابن الشيخ، وأقاربه، وأتباعه ومعهم سعيد العميري[45]. كما لقيهم في الطريق أيضا وفد كبير من أهل فاس. فيهم الوالي عبد الله الروسي. مع كتابه وعظماء بساطه[46].
ثم قدمت طائفة أخرى يتقدمهم إمام الزاوية أحمد بن عبد الوهاب الوزير6. ولما دخل إلى فاس حرك الموقف الشاعر المؤلف فقال[47]:
هنيئاً لكم يا أهل فاس أتاكم
شموس الهدى من شرقها ضاء نورها


من الخير ما يروى به كل شارب
فعمّ بلاد الغرب من كل جانب
 
وكان وصف الإقامة بفاس آخر المشاهد المثيرة التي سجلها المؤلف في الرحلة.
وإذا كانت رحلة نسمة الآس – كما رأينا – قليلة الأهمية بالنسبة للجانب الجغرافي والعمراني، لخلوها في الأغلب من الوصف المطول للمسالك والطرق والعمران والبشر، مما تعودت عليه في الأكثر، أغلب الأعمال التي تنتسب إلى فن الرحلة، فإن أكبر ميزة لرحلة نسمة الآس هي طبيعتها الأدبية. فقد عرف عن كاتبها اشتغاله بالأدب، وإتقانه لمواده.
وقد حاول خلال هذه الرحلة أن يصوغ موادها بطريقة الكتابة الفنية، فوفر فيها جانب الإيجاز، وأقام لغتها على الانتقاء والاختيار، وركب نماذج تعبيرها على فقرات مسجوعة، يحدث فيها من التناسب الصوتي ما يرفع من أثرها. زيادة على ما ركز عليه من حديث عن المواقف المؤثرة، وإنشاد الأشعار التي تنتجها هذه المواقف أو تستجيب لها.
لذلك كانت رحلة نسمة الآس نصاً أدبياً خالصاً، جيداً بكل مواده النثرية والشعرية. وكانت قيمته في هذه الناحية. وليس في قيمة ما يحمله من وصف جغرافي أو عمراني، كما جرت بذلك عادةً نصوص الرحلات.



[1]  - تقدمت الإحالة على مظان ترجمة القادري. ومن رحلة نسمة الآس عدة نسخ مخطوطة. منها مخ خ ع: ك 3216 – ومخ خ ح : 8787 وهي المعتمدة في هذا العرض. وسيرد بعد قليل التحليل المفصل لمواد هذه الرحلة.
[2]  - لرحلة نسمة الآس عدة نسخ مخطوطة، منها مخ خ ع: ك 3216 – ومخ خ ح رقم 8787، وهي النسخة المعتمدة في هذا البحث. 
[3]  - تنظر ترجمة أحمد القادري في: رحلة نسمة الآس: في غير موضع – المقصد الأحمد 1/58 – الزهر الباسم 85 مخ خ ح 685 – نشر المثاني 3/247 – التقاط الدرر 319 – الإكليل والتاج 27 مخ خ م 1897 – السلوة 2/353 – شجرة النور 333 – المصادر للمنوني 1/189 – الزاوية لحجي 124.
[4]  - نسمة الآس: 1 ب – توفي أحمد بن عبد الله بن معن عام 1120 – ترجمته في: المقصد الأحمد لعبد السلام القادري – والإلماع للمهدي الفاسي. مخ خ ع بتطوان رقم 593 – وهما معا في ترجمته خاصة – ومباحث الأنوار: 204 – صفوة من انتشر: 220 – الزهر الباسم 38 مخ خ ح 685 – الإكليل والتاج: 25، مخ خ ح 1897 – نشر المثاني 3/182 – التقاط الدرر 300.
[5]  - سيرد خلال هذا الفصل حديث مستفيض حول هذه الرحلات وأخبار أصحابها.
[6]  - نسمة الآس: 25 أ.
[7]  - نسمة الآس: 2 ب/6 أ – وراجع نشر المثاني 3/383 – والتقاط الدرر: 370 – والبدور الضاوية: 464. وقد اعتبر شيخ زاوية المخفية، ووارث شيخه أحمد بن معن.
[8]  - نسمة الآس: 2 ب.
[9]  - نسمة الآس: 2 ب.
[10]  - نسمة الآس: 2 ب.
[11]  - نسمة الآس: 3 أ.
[12]  - نسمة الآس: 8 ب.
[13]  - نسمة الآس: 25 ب.
[14]  - توفي عام 1146 – ترجمته في: مقصورة المناقب من تأليفه: مخ خ ع: ج 44، وق 81 – نسمة الآس: 4 أ، 73 ب – الزهر الباسم 57 مخ خ ح 685 – المقصد الأحمد 2/369 – كناشة بنسودة: 67 أ، مخ خ ع: د 163 – الإكليل والتاج: 28، مخ خ ح 1897 – النشر 3/364 – التقاط الدرر: 360 – الدرر البهية: 2/360 – شجرة النور: 336 – سلوة الأنفاس 2/299 – المصادر للمنوني 1/168-175-207 – دليل بنسودة 1/91-189-201-203-226 – 2/408-412 – معلمة بنعبد الله 3/114.
[15]  - نسمة الآس: 4 أ وما بعدها.
[16]  - نسمة الآس: 7 ب.
[17]  - نسمة الآس: 26 ب.
[18]  - نسمة الآس: 26 ب.
[19]  - نسمة الآس: 27 أ.
[20]  - نسمة الآس: 28 أ.
[21]  - نسمة الآس: 30 ب.
[22]  - نسمة الآس: 31 أ.
[23]  - نسمة الآس: 33 أ.
[24]  - نسمة الآس: 40 أ.
[25]  - نسمة الآس: 44 ب.
[26]  - نسمة الآس: 41 أ.
[27]  - تنفرد رحلة الآس حسب علمي بترجمته والتعريف به/ رحلة الآس: 29 ب، 30 أ.
[28]  - نسمة الآس: 34 ب.
[29]  - نسمة الآس: 44 ب وما بعدها.
[30]  - نسمة الآس: 44 ب وما بعدها.
[31]  - نسمة الآس: 46 أ.
[32]  - نسمة الآس: 24 ب.
[33]  - نسمة الآس: 49 ب.
[34]  - نسمة الآس: 48 ب.
[35]  - نسمة الآس: 46 ب، 52 ب.
[36]  - نسمة الآس: 54 ب.
[37]  - نسمة الآس: 56 ب.
[38]  - نسمة الآس: 61 ب.
[39]  - نسمة الآس: 61 أ – وراجع رحلة اليوسي: 15، مخ خ م 2343.
[40]  - نسمة الآس: 62 أ. أما الأول فقد توفي قريبا من هذا التاريخ. وقد ورد ذكره في رسالة المولى إسماعيل إلى الأمير سعد بن زيد و(راجع مصورة الرسالة عند الدكتور عبد الهادي التازي/139، دعوة الحق، عدد 282) ووصفه بابن عمنا/ أما الثاني فهو أمير الركب الذي خلفه الشيخ علي جسوس.
[41]  - نسمة الآس: 62 ب. توفي عام 1120. تنظر ترجمته في: النشر 3/176 – التقاط الدرر 298 – تراجم لبعض أعلام ليبيا لعبد الحميد الهرامة: 226 والمراجع المذكورة. مجلة الوثائق والمخطوطات، عدد: 1، سنة 1، 1986. مركز دراسة جهاد الليبيين. ليبيا.
[42]  - نسمة الآس: 58 ب. والقصيدة طويلة تقارب أبياتها أربعين بيتا.
[43]  - نسمة الآس: 68 ب.
[44]  - نسمة الآس: 71 ب.
[45]  - نسمة الآس: 70 أ.
[46]  - نسمة الآس: 73 ب.
[47]  - نسمة الآس: 76 ب

هناك تعليق واحد: