الاثنين، 30 يناير 2012

الرحالة المغاربة وآثارهم للأستاذ: محمد الفاسي




يرى كثير من علماء النقد أن الأدب العربي النثري يتصف بخلوه من ظاهرة مهمة من الناحية الأدبية المحضة، وهي تعرض الكاتب بما يتعلق بشخصه ، ولأفكاره  وعواطفه وإحساساته ، حتى أنك تقرأ كتابا من أوله إلى آخره ولا يمكنك أن تتصور عصر المِؤلف ولا بلاده، كما لا تستفيد شيئا عن ميولا ته الشخصية، ولا عن أعماله، وبالجملة فلا ترى أثرا في كل كتاباته الفعل فاعله ضمير (المتكلم) إلا ما يكون غالبا في المقدمات من إطراء المؤلف لكتابه. ويظهر لي أن من يوجهون هذا الانتقاد للأدب العربي يغفلون نوعا أدبيا له قيمته، وهو كتب الرحلات. إذ أساس هذا النوع هو شخص المؤلف وآنيته ووصف ما يعرض له في سفره، وذكر الإحساسات التي يشعر بها أمام المناظر التي يمر بها، مع اطلاعنا على أحوال البلاد التي يزورها وعلى عوائد أهلها وأخلاقهم وأفكارهم، وهو في كل هذا يعبر عن نفسه وعن عواطفه وعن وجهة نظره الخاص في كل مسألة.
وإذا كان الأدب العربي في جملته يتسم بسمة الاتباعية (الكلاسيكية) أي النظر إلى الوجود بكيفية عامة ، وإلى الإنسان كشخص مجرد شبيه بنفسه في كل زمان وكل مكان، فإن الأدباء الذين وصفوا أخبار أسفارهم في الكتب التي نطلق عليها اسم الرحلات ، يمثلون في أدبنا الناحية الإبداعية (الرومانتيكية) لذلك كان في الرحلة من الأنواع الأدبية الطريفة التي تميل إليها النفس، وكانت مطالعة الرحلات ممتعة كتب الرحلات، فقال في مقدمة رحلة لأحد المعاصرين من أهل القدس نشرها في المطبعة السلفية: «قد كان لكثير من الكتب القديمة التي ألفت في الرحلة مزية قلما تجدها في المؤلفات الحديثة، وهي أن المؤلف كان يترك القلم يرسم ما في نفس صاحبه بعيدا عن التصنع، فإذا قرأ الناس كتاب رحلة شعروا بأنهم معه يرون ماراه ويقفون على وقع ذلك في نفسه».
وقد تفوق المغاربة في هذا الفن ووضعوا فيه مؤلفات بديعة طبع بعضها وأكثرها لا يزال مخطوطا، ومنها ما تعتبر ضائعة ولا تعرف إلا بالنقل عنها في كتب التاريخ و الأدب والتراجم.
وقد برز المغاربة في هذا النوع الأدبي وبذوا غيرهم فيه حتى أن أشهر رحالة في العالم  وهو ابن بطوطة كان من أهل المغرب، وحتى أن أعظم رحلة ألفت  في العربية ألفها مغربي وهو الإمام ابن رشيد السبتي.
وقبل كل شيء ما هي أسباب كثرة تأليف المغاربة في هذا الفن ؟ وتفوقهم فيه ؟
يرجع ذلك لعوامل مختلفة أهمها بعد الديار المغربية عن الشرق والحجاز مهد الحضارة العربية ومهبط الوحي، فكان جل من يقصد البلاد الحجازية من الأدباء والعلماء لأداء فريضة الحج الشريفة البعيدة التي يحن إليها كل مغربي، لما يربطه بها من روابط الدين واللغة والدم، فيقصد الكتاب إلى التعريف بتلك البلاد وما احتوت عليه من آثار الصحابة والعلماء والمشاهد الشهيرة، مع وصف الطريق التي تؤدي
إليها بحرا وبرا، وينتهز الراحل فرصة هذا السفر الطويل فيقف بكل عواصم العلم التي تمر بها في طريقه، ويصفها أيضا ويذكر مساجدها ومآثرها وعلمائها وأدبائها، فنفقت بذلك سوق هذا النوع الأدبي، وأقبل عليه المغاربة ، وصار الكتاب يتنافسون فيه خصوصا في القرنين السابع والثامن حيث ازدهرت الآداب والعلوم بفضل تشجيع المرينيين، وقد كان لهم اهتمام خاص بأخبار الماضي وأحوال البلاد، حتى الفضل في تسجيل أخبار رحلة ابن بطوطة يرجع لأبي عنان المريني، إذا هو الذي استدعاه لحضرته وأمر كتابه ابن جزي الكيلي بتحرير ما أملى عليه من أخبار أسفاره الطويلة في أقطار الدنيا.
ومن أسباب هذا التفوق ولوع المغاربة بكيفية عامة بالسياحة وارتيادهم لأقاصي البلاد، ولم يكن ابن بطوطة المغربي الوحيد الذي دخل أقاصي البلاد الشرقية ومجاهل إفريقية، وإنما بقيت لنا أخبار أسفاره بفضل عناية أبي عنان الذي أمر بجمعها، وإلا لكنا نجهلها كما نجهل غيرها، وقد ذكر هو نفسه في رحلته قصة ندل على ما تقوله، وذلك أنه لما كان مقيما بإحدى مدن الصين وصلها مركب عظيم لبعض الفقهاء المعظمين عندهم، قال ابن بطوطة : «فاستأذن له علي، وقالوا مولانا قوام الدين ألسبتي. فعجبت من اسمه ودخل علي، فلما حصلت المؤانسة بعد السلام، سنح لي أني أعرفه، فأطلت النظر عليه، فقال أراك تنظر إلى نظر من يعرفني، فقلت له من أي البلاد أنت ؟ فقال من سبتة، فقلت له: وأنا من طنجة . فجدد السلام علي، وبكي حتى بكيت لبكائه ، فقلت له : هل دخلت بلاد الهند ؟ فقال لي : نعم دخلت حضرة دلهي. فلما قال لي ذلك تذكرته، وقلت أأنت البشري ؟ قال نعم. وكان قد وصل إلي دلهي مع خاله أبي القاسم المرسي، وهو يومئذ شاب لا نبات بعارضيه من حذاق الطلبة يحفظ الموطأ، وكنت أعلمت سلطان الهند بأمره فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وطلب منه الإقامة عنده فأبى، وكان قصده في بلاد الصين، فعظم شأنه بها واكتسب الأموال الطائلة. أخبرني أن له نحو خمسين غلاما ومثلهم غلامين وجاريتين وتحفا كثيرة، ولقيت أخاه بعد ذلك ببلاد السودان فيا بعد ما بينهما !»
وهكذا نرى المغاربة يجوبون أقطار المعمور وذلك في القرن الثامن الهجري حيث لا بخار ولا كهرباء ولا سيارة ولا طائرة، وقد عبر الشريف الإدريسي أكبر جغرافيي العرب عن هذه الهواية يقوله :
دعني أجل ما بدت لي
سفــينة أو مطــية
لابد بقـــطع سيري
أمــينة أو أمــنية  
وهو القائل أيضا :
ليت شعري أين قبـري
ضاع في الغربة عمري
لم أدع للعين ما  تشتـ
ـاق في بر و بحــر 
وكأنه يصف في هذين البيتين كثيرا من هؤلاء الرحال الذين كانوا يفارقون بلادهم ويفنون أعمارهم في التجوال واختراق الآفاق، ومنهم من يرجع لوطنه ويكون له فيه ذكر ومنزلة، ومنهم من لا يعود له. وكذلك كان الشأن في أقدم من بلغنا خبره، وهو أبو هارون الأغماني الذي فارق وطنه في أواخر القرن الخامس، وزار الديار المصرية والحجاز والعراق وخراسان وما وراء النهر، ودخل سمرقند، وكان شاعرا بليغا محدثا محاضرا متكلما وهو القائل:
لعمر الهوى أني وإن شطت النوى
لذو كبد حرى وذو مدمع سكــب
فإن كنت في أقصى خرسان نازلا
فجسمي في شرق وقلبي في غرب
وأبو هارون هذا لا ذكر له في كتب المغاربة، وهو الذي فتح سلسلة أولئك العلماء والأدباء الذين كانوا ينزحون عن بلادهم لأنهم لا ينصفون بها، ويقصدون المشرق فيحصلون على الشهرة، ويضيع فيهم المغرب كما يضيع المغاربة أخبارهم حتى إنك لا تجد لهم في كتبهم ذكرا.
ومن أشاهير هؤلاء الرحالة الذين لا يعنينا أمرهم الآن لكونهم لم يسجلوا أخبار أسفارهم أبو هارون الأغماتي هذا، والشريف الإدريسي، والمؤرخ عبد الواحد المراكشي، والأديب الكبير المحدث ابن دحيه الكلبي وغيرهم.
ومن أسباب الرحلة أيضا توجيه السفراء من قبل ملوكنا للبلاد الشرقية والغربية، والرحلات التي ألفت لهذا الصدد ترجع كلها للعصور المتأخرة أي إلى أيام السعديين والعلويين، وإن كنت أقدم رحلة معروفة ولا تزال منها نتف مخطوطة في بعض الخزانات، وهي كتاب ترتيب الرحلة للإمام أبو بكر بن العربي المعافري دفين فاس، ويرجع سببها لسفر والده موجها من قبل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين سفيرا إلى الخليفة العباسي أحمد المستظهر بالله، وصحبه ولده أبو بكر وذلك سنة 585 وبقي بالمشرق مدة للأخذ عن علمائه، ولم يرجع للبلاد المغربية إلا بعد ذلك بثمان سنوات. (ومن أسباب الرحلة أيضا التغرب في طلب العلم ولقاء المشايخ الكبار وارتياد المكاتب الشهيرة، فكان الطالب بعد رجوعه من سفره وقد آب يعلم غزير يؤلف في الغالب رحلة يذكر فيها الشيوخ الذين أخذ عنهم والأدباء الذين لقيهم، ويثبت الإجازات التي حصل عليها مدة دراساتهم، والتي نبرهن على تفوقهم وعلو كعبهم في العلوم التي تخصصوا فيها، وكثيرا ما كانت هذه الغاية الدراسية تتحد مع أداء فريضة الحج، إذ كان الطالب ينتهز فرصة وجوده بالمشرق الحج وإتيان مناسكه.
ومن أسباب الرحلة كذلك مرافقة الكتاب للملوك ولرجال الدولة في أسفار رسمية يكلف أحدهم بعد ذلك بتسجيلها على نحو ما يفعله اليوم الصحافيون الذين يصحبون الرؤساء في تنقلاتهم ويوافون صحفهم بأخبار هذه الرحلات.
وقد تضافرت كل هذه الأسباب وشبهها في بلادنا في مختلف عصور تاريخنا على تزويد الخزانة العربية بمؤلفات ثمينة، منها ما طبقت شهرية كل أقطار الدنيا كرحلة ابن بطوطة التي ترجمت لجل لغات العالم.
وإن قائمة رجال العلم والأدب الذين رحلوا عن بلادهم لسبب من الأسباب المتقدمة لا تكاد تنحصر، إذ قل ما توجد ترجمة شهير من مشاهيرنا لا يشار فيها إلى أن له رحلة، ولكن لا يعنينا من هؤلاء الرحالة سوى من سجلوا أخبار أسفارهم في كتاب خاص يشتمل على وصف المراحل والمشاهد، إذ منهم من يضع كتابا أثر سفره يخصصه بذكر شيوخه وتراجمهم، مع ذكر الكتب التي درسها عليهم، والتعرض لسلسلة الرواة التي توصله لواضعي المؤلفات الأولين، وهذا النوع الذي يسمى بالفهرسة عند أهل المغرب وبالبرنامج عند الأندلسيين وبالثبت عند المشارق لا يعنينا أيضا، إذ أنه ولو كانت له صلة بالرحلة فهو لا يتصل بموضوعنا الأمن طرف واحد.

والآن وقد عرفنا الأسباب التي تحدو بكتابنا إلى الرحلة ثم إلى تسجيل أخبار رحلتهم، ننتقل للكلام على الرحلة من حيث هي.
إن فن الرحلة في أصله له اتصال متين بالجغرافية، إذ الكتب الأولى المؤلفة في هذا العلم كانت تتخذ صبغة الرحلة، وذلك أن الجغرافي كان أولا يطوف البلاد التي يود التكلم عليها، ويخترق مسالكها ويقف بنفسه على أحوالها، ثم يضع بعد ذلك كتابه، لذلك سميت جل التأليف الجغرافية التي كتبت في القرون الأولى، «المسالك والممالك» وصارت هاتان الكلمتان تطلقان على علم الجغرافية عند العرب، كما سموه أيضا علم تقويم البلدان، والفرق بين كتب الرحلات وبين كتب المسالك والممالك، هو أن مؤلف الرحلة يذكر فيها ما يتعلق بنفسه، فينبه مثلا على تاريخ خروجه من وطنه، وعلى الأحوال التي أحاطت بسفره، مع الإشارة لأسبابه، ويثبت كل ما يقع له من حوادث أثناء غيبته، وأما مؤلف المسالك والممالك فإنه يكتفي بذكر المسافات وبوصف البلاد التي يمر بها من الناحية الزراعية والتجارية، ويصف أحوال الممالك السياسية والعمرانية، ولا يتعرض لنفسه إلا في ما قل، وذلك خصوصا في المؤلفات الأولى من هذا النوع، حيث كان علم الجغرافية لم يستقل بعد تماما عن فن الرحلة حتى أبلغه الشريف الإدريسي إلى درجته العليا عند العرب، في مؤلفه نزهة المشتاق في اختراق الأفاق، وهذا الكتاب وإن كان كجل الكتب القديمة الموضوعة في المسالك والممالك نتيجة رحلات متعددة كما ينم عنه عنوانه، فإنه كتاب جغرافي محض، لا أثر فيه لذكر الوقائع التي حدثت للمؤلف أثناء أسفاره، ولا لشيء من أحواله الشخصية لذلك لا يدخل في موضوعنا إلا عرضا.
ويمكننا أن نقسم الكلام على الرحلات بالاستناد إلى اعتبارات مختلفة، كان نرتبها على العصور التاريخية مسلسلين الحديث عنها من أول رحلة إلى أول رحلة إلى عصرنا هذا، ويمكن أيضا أن نرتبها حسب النواحي التي قصدها الرحالة وكتبوا عنها، كما يمكن أن نقسمها إلى قسمين كبيرين : الرحلات التي سافر أصحابها برا، والرحلات التي سافر أصحابها بحرا، إلى غير ذلك من الاعتبارات
ولكن الطريقة التي اتبعتها في دراسة الرحلات في الأدب العربي عموما، هي التي ينبغي أن تتبع في الكلام على خصوص الرحلات المغربية، وهذه الطريقة ترجع إلى أسباب الرحلة، وذلك أنني قسمت أنواع الرحلات إلى عشرة أقسام، منها عند المغاربة أنواع :
1) الرحلات الحجازية وهي الكثيرة لأنه يدخل فيها الرحلات الدراسية وبعض رحلات السياحة خارج المغرب ورحلات الزيارات وغير الزيارات وغير ذلك
2) الرحلات السفارية
3) الرحلات الرسمية
4) الرحلات السياحية
5) الرحلات العامة أي التي تأخذ من كل هذه الأنواع كرحلة ابن بطوطة مثلا.
(وأقدم رحلة مغربية وصلنا خبرها هي رحلة حجازية جامعة، تعتبر أعظم رحلة ألفت في اللغة العربية، وهي المسماة (ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة مكة وطيبة) لمؤلفها أبي عبد الله محمد ابن عمر المعروف بابن رشيد الفهري، دفين فاس، وولد بسبتة عام 657 ورحل سنة 683 فقصد ألمرية بالأندلس، وكانت هذه المدينة باب المشرق منها تبحر المراكب الكبيرة قاصدة مراسي إفريقيا الشمالية ومصر والشام. وقد توجه ابن رشيد أولا إلى تونس فقضى بها مدة يتردد على مشايخها ويقيد الفوائد عنهم في شتى الفنون، وقد ضمن كل ذلك رحلته الثمينة مع تراجم من لقيهم من العلماء والأدباء، ثم قصد الإسكندرية ووصف في كتابه مشاهدها المشهورة وآثارها كالمنار الشهير الذي لا تخلو من وصفه رحلة ألفت بعد ذلك، وقد قال ابن رشيد عنه: «يعجز منه الوصف ويحار فيه الوصف، ضخامته من داخله أكثر مما عليه من خارجه، وهو من عجائب المصنوعات وغرائب المرئيات» وقد أقام مدة بالإسكندرية مشتغلا بالبحث والتنقيب دائم التردد على كل من يشار إليه بمعرفة في فن من الفنون مقيدا كل ما يسمع ويرى، ثم انتقل إلى القاهرة وقضى بها مدة لا ندري طولها، لأن أحد أجزاء هذه الرحلة قد ضاع وهو المشتمل على بقية أخبار مقامه بها، ثم على ذكر سفره إلى دمشق والمقام بها أيضا، وقد خرج من دمشق قاصدا البلاد الحجازية فدخل المدينة المنورة أولا ثم قصد مكة وحج في موسم سنة 684 ثم رجع إلى المدينة ومنها إلى القاهرة فالإسكندرية وهو في أثناء ذلك كله لا ينفر عن التقييد والبحث عن علماء كل بلد وأدبائه والأخذ عنهم ونقل أخبارهم وأفادهم وإنشادا تهم.
وفي اليوم الرابع من ربيع الأول سنة 685 غادر الإسكندرية مبحرا قاصدا طرابلس الغرب فقضى بها بضعة أيام ثم نسافر منها وسارحتي وافي مدينة المهدية العبيدية بالقطر التونسي وبحث فيها أيضا عن مشاهيرهم على عادته في التنقيب عن أهل العلم والأدب، ومنها سار إلى أن وصل مدينة تونس في ذلك العصر قد بلغت على عهد الدولة الحفصية الفتية أعلى مدارج الرقي العلمي، وصارت في مصاف العواصم الإسلامية الكبرى كالقاهرة ودمشق وغرناطة وفاس حتى أن العبدري الذي زارها سنتين من بعد ابن رشيد لم يعترف في رحلته بوجود العلم الصحيح بعد خروجه من المغرب في بلد من بلدان المشرق سوى بمدينة تونس.
وقد بلغ إعجاب ابن رشيد بمدينة تونس وبأهلها وبعلمائه أقصى حد، وبرهن عليه بمقامه بها سنة كاملة تفرغ فيها للاستفادة أكثر ما كان في إمكانه، وحيث قرر المقام بها فارقة صديقه ورفيقه في هذه الرحلة الأديب الكاتب أبو عبد الله بن الحكيم الرندي الذي كان ينتظره في وطنه مستقبل زاهر إذ صار بعد ذلك وزيرا لمحمد الثاني النصري صاحب غرناطة.
أما ابن رشيد فإنه بعد سنة اشتاق إلى وطنه فرجع على طريق البحر وهو يؤثر السفر فيه على الأسفار البرية، وقد رسى به المركب ببونة قاعدة بلاد العناب المسماة اليوم عنابة، ثم أبحر ونزل بمراس أخرى إلى أن وصل مدينة مالطة بالأندلس وإليها كان متوجها المركب الذي ركب فيه، وقصد بعد ذلك رندة لزيارة صديقة ابن الحكيم، وزار بعض مدن الأندلس، ثم أبحر من الجزيرة الخضراء إلى مدينة سبتة « والشرق قد برح والغم قد صرح والديار قد تدانت والأعلام قد تراءت» كما قال آخر رحلته راجعا عن فكرة في عدم الاهتمام بمفارقة الأوطان حيث يقول :
تغرب ولا تحـــفل بفرقة موطن
تفز بمنى في كل ما جئت من حاج
فلولا اغتراب المسك ما حل مفرقا
ولولا اغتراب الدر ما حل في تاج
وإننا بهذه النظرة العجلى التي ألقيناها على رحلة ابن رشيد يمكننا أن نقول أنه ليس من الممكن أن تكون هي أول رحلة ألفت في المغرب إذ أنها من النوع الكامل في هذا الموضوع، ولاشك أنها سبقت بمحاولات أخرى بالأقل في القرنين الخامس والسادس، ولكن الإنتاجات الأدبية لهذه العصور الأولى أتى على جلها الاضمحلال والفناء، كان ريحا عاصفة جرفتها فلم يبق سوى ذكرها في بعض الكتب التي تعني بهذه الشؤون، وحتى رحلة ابن رشيد هذه على عظم شأنها وما نالته من الشهرة في المشرق والمغرب، حيث أننا نرى النقل عنها والثناء عليها في غير ما كتاب، كاد يصيبها ما أصاب غيرها من مؤلفات المغاربة حيث لم يبق اليوم جزء واحد منها في بلد من بلاد الإسلام، وكل ما بقي لنا منها هي الأجزاء الخمسة المحفوظة بخزانة دير الاسكوريال الواقع على نحو ستين كيلو مترا من شمال عاصمة إسبانيا، وقد وقفت عليها بهذه الخزانة في أحد تردداتي عليها. وقد اختلف المؤلفون في عدد الأجزاء التي تتركب منها الرحلة وقد حققت بوقوفي على ما بقي منها أنها كانت تحتوي على سبعة أجزاء، ضاع الأول وكان يشتمل على السفر من سبتة إلى المرية، ثم إلى تونس والثاني موجود وهو بخط المؤلف خاص بتونس في الذهاب، والثالث مبتور الأول والأخير وفيه الكلام على الإسكندرية والقاهرة، والرابع مفقود كذلك وكان يحتوي على السفر من القاهرة إلى دمشق، والخامس يحتوي على وصف الطريق من دمشق إلى المدينة ثم وصف الطريق إلى مكة ووصف الحج ومناسكه ثم سفر الرجوع إلى القاهرة والإسكندرية، وهذا الجزء بخط المؤلف أيضا، والجزء السادس فيه وصف الخروج من الإسكندرية بحرا إلى أن وصل تونس كما قدمنا مع الكلام على مقامه بها، وهو بخط المؤلف كذلك، ولجزء السابع فيه بقية الكلام على تونس وأدبائها وعلمائها وخبر خروجه منها إلى أن وصل مسقط رأسه، ولاشك أنه مع الجزأين الأول والسادس أهم مصدر عن تاريخ الحركة الفكرية في تونس في القرن السابع.
وقد توفي ابن رشيد الفهري سنة 721 بمدينة فاس حيث كان استدعاه المرينيون وحببوا إليه المقام بعاصمتهم فاتخذها دارا ونشر فيها عمله وقصده طلابه من أصقاع الأندلس والمغرب.
وتنتقل بعد ابن رشيد للكلام على شخصية من أهم أصحاب الرحلات ممن لهم شهرة ذائعة لما تمتاز به رحلته من الصراحة والنقد لأحوال البلاد التي زارها ونعني به أبا عبد الله العبد ري ، وهذا الرحالة العظيم على الرغم من الشهرة التي يتمتع بها حتى أن نسخ رحلته المخطوطة منتشرة في كل البلاد ، ولا تكاد تخلو منها خزانة ، لا نعلم من خصه بالذكر من القدماء سوى ابن القاضي في جذوة الاقتباس حيث ترجمه بما يستفاد من رحلته لا غير ، لذلك لا يعرف لا تاريخ ولادته ، ولا وفاته ، ولا كيف نشأ ، ولا الذي حدا بالمؤلفين لإغفال ذكر العبد ري ما كان يعرف به من لسان قانع ، وعدم الاعتراف بالمزية لأحد إلا ما كان من أفراد قليلين ذكرهم خصوصا من أهل تونس مما جعل الناس لا شك ينفرون منه ويهملونه ، ولأن ذلك لم يفد في القضاء عليه ، لأنه ضمن الخلود لنفسه بمؤلفه الفريد من نوعه ، لأن هذه الرحلة وإن كنا لا نشاطره الرأي في كل ما ذكره فيها من إبداع ما ألف في هذا الفن .
والعبد ري هذا من أهل بلاد حاحة ، وأسلافه من العرب القرشيين من بني عبد الدار الذين نزلوا في قبيلة حاحة البربرية التي تحيط بمدينة الصويرة ، والنسبة إليها حيحي على غير قياس ، أي كما يتلفظ بها أهل البلاد ، ولا مراء في أنه من أهل حاحة ، فهو دائما يذكرها ويحن إليها ، حتى أنه لما وصل إلى فاس في رجوعه من سفره ، وأدركه العيد فيها فقال :
قالوا تعيد في فاس فطب فرحا
فقلت ما لي بها دار ولا عطن
فاس ومكناس وطنجة وسلا
عندي (كزديك) (1)لا أهل ولا وطن
فهو لا يطيب فرحا بالتعبيد في فاس ، رغم جمالها واتساع حضارتها ، وكونها قاعدة المملكة ، ويفضل عليها بلاد حاجة ، لأنها موطنه ومسقط رأسه .
إذا علمتم هذا اشتد عجبكم ممن يقول : أن العبد ري من (بلتسية) وأول من رأيته بنسبة لهذه المدينة الأندلسية أحد المستشرقين الإسبان (بونس بويكس) في طبقاته للمؤرخين الأندلسيين ، وقد تابعه على ذلك مؤرخ الآداب العربية بروكلمان ، والشيخ محمد بن أبي شنب رحمه الله في مقاله عن العبد ري في دائرة المعارف الإسلامية ، والمستشرق الإسباني (كونساليس بالنسيا) في تاريخه للآداب العربية الأندلسية ، وجوجي زيدان ، وغيرهم ، ولم يذكر واحد منهم مستندا في ذلك ، ولعل الخطأ تسرب لأول من وقع فيه من كون عدد كبير من الأدباء والعلماء من أهل الأندلس ، ينتسبون إلى بني عبد الدار ، بل منهم عبدري رحل إلى المشرق وألف رحلة ، كما أن عبد ريا ثالثا من أهل تلمسان رحل ألف ، فالتبس هذا وذاك أو غيرهما بعبدرينا ، وجعل أندلسيا ، والحالة أنه مغربي صميم ، يصرح بذلك في مؤلفه ، وهو يعتز بالمغرب وأهله ، ولا يتعرض مطلقا لبلاد الأندلس ، ولم تدعه نفسه لزيارتها ، بل أن قبره موجود إلى الآن ببلاد حاجة ويعرف بسيدي أبي البركات .
أما في رحلته فلا يسعنا ضيق الوقت لتحليلها ، وإنما نذكر الطريق التي اتبعها في ذهابه وإيابه ، وذلك أنه خرج من بلاده حاحة في آخر سنة 688 على طريق البر من وراء الأطلس قاطعا المفازة التي بين جنوب المغرب ومدينة تلمسان ، ومنها قصد تونس داخلا لجل المدن التي على طريقه ، وهو يصف كل المحلات التي يمر بها ، ويذكر أحوال أهلها ، وأكثر اهتمامه بالعلم
والحركة العلمية . وقد قال في مقدمته بعد أن ذكر أنه سيستعمل الصراحة والإنصاف في الرحلة ، وإنه لا يعمدا إلى تقبيح حسن ، ولا تحسين قبيح : «وقد تعطل في هذا العصر موسم الفاصل، وتبدد في كل قطر نظام الفضائل ، وتفرق أهلها أيادي سبا ، وصاروا حديثا في الناس مستغربا » إلى أن يقول أو ليس من الأمر الخارج عن كسل قياس ، إن المسافر عندما يخرج من أقطار مدينة فاس ، ليزال إلى الإسكندرية في خوض ظلماء ، وخبط عشواء .»
ثم بعد هذا الوصف الإجمالي لحالة البلاد التي مر بها في طريقه ، صار عندما يصل لكل مدينة ، يهتم قبل كل شيء بالحالة العملية فيها . ولما وصل تلمسان ، ذكر أنها مدينة جميلة المنظر : «وأهلها ذوو لياقة ولا بأس بأخلاقهم ، أما العلم فقد درس رسمه في أكثر البلاد وغارات أنهاره.» وقال مثل هذا في مليانة والجزائر وبجاية ، مع أنه صرح :«بأن هذا البلد ، مبدأ الإتقان والنهاية، غير أنه قد عراه من الغير ، ما شمل في هذا الأوان البدو والحضر .» وصار على المنوال من التأسف على ذهاب العلم من هذا إعجابا كبيرا من سائر نواحيها ، وأطنب في مدح أهلها ، وفي الثناء على أخلاقهم ، مما يدل على إنصافه ، إذ لم يمنعه استعداده للتنقيص من كل شيء ، والنظر بعين السخط إلى الوجود ، إن يطري ما يستحق الإطراء ، فقال في تونس من جملة كلامه : «وما من فن من فنون العلم إلا وجدت بتونس به قائما ن ولا مورد من موارد المعارف إلا رأيت بها حوله واردا وحائما» . وقد طال في ذكر من لقيه بها من العلماء والأدباء وأخذه عنهم ، بخلاف عادته في الإيجاز ، لأنه قليل الفضول ، فلا يذكر من الأشياء إلا ما تهم معرفته ، واستطراداته كلها في محلها ، ولا تنسبه ما هو بصدده ، فلا يخرج كثيرا عن موضوعه ، ولا يبتعد عنه ويرجع إليه ، بعد استيفاء الكلام فيما قصد الكلام عليه .
ومن تونس قصد مصر على طريق البر ، مخترقا طرابلس ، وما خرج من مدينة تونس ، حتى انقلب ابتهاجه حزنا ، ورجع لمعهود عادته : من التفجع على ذهاب العلم . ولما وصل إلى طرابلس، صار أسفه غضبا وأطلق للسانه العنان فقال : «ما للعلم بها عرس ،أقفرت ظاهرا وباطنا ، إلى أن يقول أهلها : « كأنهم من ضيق إفهامهم لم يخرجوا بعد إلى العالم فسبحان من خلقهم وأهل تونس طرفي نقيض : أولئك في الأوج ، وهؤلاء في الحضيض».
ولما وصل إلى الإسكندرية أعجبه موقعها ومناظرها ومبانيها البديعة ، إلا أنه ما عتم أن قال : «بيد أنها الآن ، بلد زادت صورته على معناه ، فهو كجسم حسن لا روح فيه» وتخلص من ذلك للكلام على نظام الديوانة القاسي ، وانتقده انتقادا مرا ، وهو ينفق في هذا بالخصوص مع من سبقه من الرحالة ومن لحقه ، فقد أجمعت كلمتهم على أنه كان لأهلها شره كبير في أخذ المكوس ممن يمر بهم من حجاج بلاد المغرب بل وافقه على هذا أيضا شيخه وشيخ الإسكندرية في وقته : نور الدين بن المنير ، فقد حكي العبد ري أنه ظن أول وهلة أن ذلك أمر أحدثوه ، حتى حدته شيخه المذكور بما كان لابن جبير قلبه ، وأوقفه على ما وصفه ذم تلك الأفعال الدينية ، وأنشده قصيدة ابن جبير التي وجهها لصلاح الدين يذكره بحقوق المسلمين ، والتي من جملتها قوله :

يعنف حجاج بيت الإله وتسطي بهم سطوة الجائر
ويكشف عما بأيدهم وناهيك من موقف الصاغر
وقدا وفقوا بعدما كوشفوا كأنهم في يد الآسر
وأما مدينة القاهرة ، فلم يكن حظها من تنقيص رجالتنا لها ولأهلها بأقل من حظ الإسكندرية ، بل أنه قال فيها ما لم يقله في مدينة غيرها ، على كثرة ما رأينا من انتقاداته ، ولكن ذلك لا يمنعه من استيعاب وصف مشاهدها وآثارها ، والكلام على النيل والأهرام وغير ذلك ، التقى فيها بأكبر علمائها في ذلك الوقت وقال عنه : «ولم أر بهذه المدينة على كثرة الخلق بها أمثل ولا أقرب إلى الإنسانية وأجمل معاملة من الشيخ الفقيه شرف الدين الدمياطي» .
ومن القاهرة صحب الركب الرسمي برا على العقبة ، ودخل الحجاز ، فأطال في وصف مكة المكرمة وأمتع ، بعد أداء الفريضة قصد المدينة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولم تمنعه قداستها من أن يقول على عادته : «ولم أر بالمدينة مع شدة البحث والحاج الطلب وتكرر السؤال من هو بالعلم موصوف ولا من هو يفن من فنونه معروف » . وكان رجوعه على طريق فلسطين ، فمصر ، ولم يغير طريق رجوعه من مصر إلى المغرب ، إلا أنه لما وصل إلى تلمسان ، ولم يقصد بلاد حاحة على الصحراء كما فعل في السير ، بل رجع على طريق الغرب مارا بتازة وفاس ومكناسة ، وقد اختصر الكلام في البلاد المغربية اختصارا مخلا مع أنه سمى رحلته هذه «الرحلة المغربية» وفاس ومكناسة ، وقد اختصر الكلام في البلاد المغربية اختصارا مخلا مع أنه سمى رحلته هذه «الرحلة المغربية» وإنما قصد
بهذا أنه قطع كل بلاد المغرب في طريقه إلى الشرق ولم يركب البحر .
هذا مجمل وجيز من هذه الرحلة الثمينة ، وهي شاهد عظيم على ما بلغت إليه المعارف في المغرب في العصر العبد ري ، إذ الرجل كما يظهر من رحلته هذه : عالم جليل له إطلاع على علوم الشرع ، ومعرفة واسعة بدقائق اللغة ، وفنون الأدب ، وهو يرى أن كل هذه العلوم في تقهقر واضمحلال بعواصم العلم ، باستثناء تونس وما كان من بعض آحاد الأفراد ممن لقيهم كابن خمسين في تلمسان بالقيروان وابن المنير بالإسكندرية وابن دقيق العيد وشرف الدين الدمياطي بالقاهرة .
وقد ننبه المستشرقون لهذه الرحلة وأهميتها منذ القرن الماضي ، وكان أول من اشتغل بها المستشرق الفرنسي شيربونو فنشر بالجريدة الاسباوية سنة 1854 مقالا عنها أبعه بترجمة بعض فصولها ، وأهتم بها بعد ذلك غيره من المستعربين ، وإن كانت إلى حد الآن لا تزال مخطوطة ولم يوفق بعد أحد إلة نشوها مع تعدد نسخها ، حتى أني وقفت منها على ثمان نسخ بمختلف الخزانات التي زرتها ، وقد قال شبروبوتو المذكور عن رحلة العبد ري : «أنني قلما رأيت كتابا عربيا مفيدا ممتعا لدرجة ممتعا لدرجة رحلة العبد ري ، وذلك لبس فقط لصحة تحقيقاته الجغرافية ولكن أيضا لتفاصيله عن الآثار القديمة ولدراسته للعوائد ولتقديمه لنا جل العلماء المسلمين في القرن السابع » .
كما قال بونس بويكس الإسباني : «ورحلة العبد ري كما يرى يسودها الإخلاص والتدقيق في الوصف وأسلوبه فيها حي جميل وهذا هو السر في إقبال الناس عليها ، وفي النجاح الذي صادفته في الأوساط الأدبية » .
ولم ينته القرن السابع حتى توجه إلى المشرق رحالة ثالث وهو أبو القاسم التجيبي السبتي ووضع وجهته هذه رحلة نقل عنها المؤلفون أنثوا عليها وقال عنها ابن حجر في كتابه الدرر الكامنة : «وهي ثلاثة مجلدات ضخمة وقد حذا فيها حذو ابن رشيد وكان رحل قبله بنحو عشر سنين وزاد هو على رحلة ابن رشيد بتضمين الرحلة مشيخة له مستوعبة» كما قال عنها أحمد بابا السوداني وهو ينقل عنها في كتابه نبل الابتهاج : «كتاب نفيس في ثلاثة مجلدات» وأحمد بابا آخر من رأيته ينقل عنها مباشرة وهي مع الأسف تعتبر مفقودة وقد قيل أن مجلدا منها يوجد بتونس ولا كنني لم أتحقق بعد من ذلك وكان سفر التجيبي سنة 696 وهو مؤلف برنامج حافل بذكر المشايخ الذين لقيهم في عواصم العلم بالمغرب والأندلس والمشرق وقد وقفت عليه بخزانة الاسكوريال وهو من أحسن ما وضع في هذا الفن وطريقته فيه أن يذكر المؤلف الذي درسه ومؤلفه وعلى من قراه ومحل ذلك وتاريخه وبتتبع هذا البرنامج يمكننا أن نطلع بتدقيق على سير دراسة أبي القاسم التجيبي مع تاريخ تنقلاته كما يستفاد منه أسماء الكتب التي كانت شائعة بالمغرب في القرن السابع .
وتوفى التجيبي ببلده سبتة سنة 730 .
وفي أوائل القرن الثامن بدأت رحلة ابن بطوطة التي كانت الغاية منها الأولى أداء الفريضة ثم طالت نحو ثلاثين سنة جاب إثناءها أقطار المعمور ، ومحل الكلام عليها في الرحلات العامة . وبعد رجوعه بيسير سافر إلى الحجاز أبو الفضل أين أبي مدين العثماني وكان من الزهاد وألف رحلة «أحكم تصنيفها ووصف فيها عجائب ما أرى» على ما ذكره معاصره أبو عبد الله الحضومي في كتابه في كتابه السلسل العذاب المخطوط ولكن هذه الرحلة قد ضاعت كما ضاعت الرحلة التي ألفها في هذه المدة أبو عبد الله ابن سعيد الرعيني المعروف بالسراج من أهل فاس المتوفى سنة 771 وقد ألف أيضا منظومة في مراحل الحجار ذكرها مترجموه ولم أثر لكل هذا .
وفي القرن التاسع من اختلال أحوال الدولة المرينية وفقت هذه الحركة ولم يحدثنا المؤرخون عن راحل ترك لنا أخبار أسفاره إلى الحجاز مدونة إلى أواخر هذا القرن عندما قصد الحجاز الشيخ زورق البرنسي الفاسي دفين مسراته بطرابلس الشهير ووضع رحلة لا تزال منها بعض النتف في بعض الخزائن .
ولأكن بعد انتهاء الفوضى التي كانت سائدة أيام الوطاسيين واستتباب الأمر أيام السعديين عاد المغاربة لتدوين أخبار رحلاتهم في مصنفات وصلنا بعضها .
وأولى هذه الرحلات التي كتبت أيام السعديين لشخص من أهل المغرب يسمى أبا العباس أحمد الحجري ويعرف بأفوغاي ، وكان في صباه على ما يظهر بقطن بالأندلس مع تلك البقية الباقية من المسلمين
الذين تأخروا بها أيام التفتيش وأكرهوا على المسيحية فأظهرها هو أيضا إلى أن أمكنته الفرصة وقصد البريجة وهي مدينة الجديدة الحالية وكانت يومئذ في يد البرتغاليين ثم هرب منها إلى داخل المغرب واتصل بالمنصور السعدي وحوالي سنة 1007 قصد البلاد الحجازية لأداء فريضة الحج ووضع رحلة سماها «الشهاب إلى لقاء الأحباب» نقل عنها أبو عبد الله العياشي أحد كتاب المولى إسماعيل في كتابه «البستان في أخوال مولاي زيدان» فقرة تتعلق بهروب أفوغاي من البريجة إلى أزمور وذهابه إلى مراكش عند المنصور الذهبي ، كما نقل هذا أيضا الافراني في نزهة الدي ، ولا تعرف اليوم نسخة لهذه الرحلة ، وأفوغاي هذا شخصية عجيبة يؤسف أكبر الأسف لضياع آثاره وذلك أنني وقفت عند الأستاذ العلامة جورج كولان على كواريس من كتاب لافوغاي هذا في الرد على النصارى واليهود ولكنه جعله كالرحلة حيث يذكر المدن الأروبية التي دخلها وناقش أخبارها ويحيل للتفصيل عن أوصاف البلاد على كتاب رحلته الخاصة بأسفاره بأوربا كما قال أنه وضع رحلة عن سفره إلى الشرق سماها الشهاب إلى لقاء الأحباب ـ وهي المشار إليها آنفا وبما أننا لا نستطيع في هذا الوقت الضيق أن نلم بأخبار كل الرحلات فلا بأس أن نتعرض لهذه النبذة من كتاب أفوغاي لطرافتها ولكونها فريدة لا تعزز بثانية ذكر أنه لما قضى حوائجه ببروضيوش «يعني بوردو» رجع إلى باريس واستطرد للكلام على النجوم وقال أنه أخذ هذا العلم بمراكش على الفقيه أحمد المصيوب الفاسي وأن السلطان أحمد المنصور كان يفيده يكتب خزائنه التي قالوا «نهاية كتبها اثنان وثلاثون ألف كتاب» وألقى في باريس بتركيتين أسرنا وهما قاصدتان البلاد الحجازية لأداء فريضة الحج وأتى بهما للملك لأنهما تحسنان التطريز فطلبتا من أفوغاي أن يسعى في فكاكهما قواعدهما خيرا ثم سافر إلى روان ومنها إلى موسى البركة يعني Le Hâvre لأن هذه المدينة كانت تسمى البركة Hâver de grâce ومن هذه المدينة أبحر قاصدا بلاد هولاندة ويسميها فلانضى أي Le flandres فتكلم على أمستردام وحسن بنائها ومرساها وكثرة سفنه ، وجرت له بهذه المدينة مناقشة مع حبر يهودي ، وهو في الرد على النصارى واليهود يحتج عليهم بأقوال التوراة والإنجيل وله اطلاع على كتبهم وهو يحسن الأسبانية وربما كان له إلمام بغيرها من لغات أوربا ، ثم ذكر ملاقاة في مدينة لايدى Leyde بأحد المستعمرين ووقعت بينهما مناقشات دينية وأعطوه كتابا جاؤوا به من جزر الهند الشرقية وهو في التصوف فقال لهم بعد مطالعته يمكنني أن أترجمه لكم فتعجبوا من ذيوع اللغة العربية حيث هو من أقصى المغرب ويفهم ما كتب في أقصى المغرب وبفهم ما كتب في أقصى المشرق والحالة أنهم لا يعرفون كلام جيرانهم من الأمم الأوربية الأخرى ثم ذهب إلى لاهاي حيث التقى بشخص قال عنه أنه رسول الأمير واسمه Pedro Martin وكان تعرف به في مراكش حيث كان أسيرا وسعى في سراحه عند المولى زيدان السعدي فقدمه هذا الرسول لأمير لاهاي فطلب منه هذا الأمير أن يفصل له الكلام على طرد الأسبان للمسلمين من الأندلس فأجابه لطلبه وأورد بعض ذلك في هذا الكتاب .
ثم ذكر في الباب الأخير وهو الثاني عشر ما وقع له مع راهب مسيحي بمصر ومع آخر بمراكش حصل أسيرا مع أهل سفينة م النصارى ضلوا ونزلوا بموسى أزمور.
وأكثر هذا الباب في رد أقوال النصارى وانتقاد اعتقاداتهم وله اطلاع كبير على مذاهبهم وكتبهم كما يستفاد من هذا الفصل الأخير أنه تعرف في باريس بأكبر أدباء الفرنسيين إذ ذاك ولا يمكن أن يكون إلا الشاعر ماليرب حيث قدمه له المستعرب «أبرته» وأنه زار تونس وأن المنصور الذهبي كان ينوي بعث سفارة إلة أوربا تحت نظر القائد إبراهيم القلعي ولكنه عدل عنه إلى «أفوغاي» «لأن القائد عامي والقسيسون النصارى يشككونه في دينه» كما قال أفوغاي وكانت هذه السفارة سبب وضع هذا الكتاب وذكر أنه أتم تأليفه بمصر يوم الجمعة 21 ربيع الثاني سنة 1047 ومن هذا التلخيص الوجيز يظهر ما كانت عليه مؤلفات أفوغاي الضائعة من الفائدة والمتعة .
وفي سنة 1016 ألف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أبي محلي ـ الثائر المشهور ـ رحلة حجازية وسماها : «عذراء الوسائل وهودج الرسائل» وتسمى أيضا «أصليت الخريت» ، ومنها نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية بالقاهرة ، ولعل ببعض الخزائن الخاصة بالمغرب نسخا منها ، وقد لخص العلامة المؤرخ قاضي مراكش السيد العباس بن إبراهيم أولية ابن أبي محلي عن هذه الرحلة ، وهذا التأثر هو الذي أرخت سنة ثورته وسنة قلته بقولهم «قام طيشا ومات كبشا» أي نار سنة 1020 وقتل سنة 1023 .
وممن رحل أيام السعديين أبو زيد عبد الرحمن الغنامي الشاوي المعروف برحو ، وصنف رحلة ينقل عنها الأفراني أيضا في نزهة الحادي لاكنا لا نعرف شيئا عنها ولا عن صاحبها سوى أنه كان أيام السعديين ، ويوجد بسطات ضريح يسمى صاحبه : سيدي رحو الغنامي ، فلا ببعد أن يكون مؤلف هذه الرحلة .
وقد ختم العصر السعدي برحلة حجازية طريفة مفيدة لأحد أهل مراكش لا يعرف أدنى شيء عن حياته، ولم يرد ذكره في كتاب ، وإنما يعرف اسمه من هذه الرحلة التي بقيت محفوظة بإحدى الخزانات الخاصة بفاس ، وهو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن محمد القيسي الشهير بالسراج الملقب بابن مليح ، وقد سافر سنة 1040 أيام الوليد بن زيدان على طريق البر جنوبا مع الركب المراكشي ن وقلما كان يتوجه الحجاج من هذه الطريق الوعرة وقد وصفها وصفا دقيقا له قيمة كبرى من الناحية الجغرافية حيث أنه أعطى كل التفاصيل عن هذه المراحل الصحراوية القاحلة وما بها من آبار ، ولعل هذه الرحلة هي الرحلة الوحيدة التي وصفت هذه الطريق التي تسير في اغمات إلى وارزازات فبلاد درعة فالصحراء الفاصلة بينهما وبين بلاد توات ، ثم قطعوا بلاد توات حيث التقوا بالقائد علي بن عبد القادر الشرقي ، وإلى السودان العام عن السعديين ، ثم دخل الركب صحراء ازكر الفاصلة بين توات والفزان ، وفيها خمسون مرحلة قطعوها في خمسين يوما قال «وصلنا بلاد فزان ، وقد انتفضت الجراب ، وعجزت الركاب ، وماتت الرواحل ، لبعد المراحل ، وقد اشرف الناس فيها على الهلاك «ثم قطعوا بلاد الفزان في نحو الشهر ، ثم دخلوا بلاد وجلة قبلاد سيوة فمصر فعبروا النيل ودخلوا القاهرة ، وقد قطعوا المسافة من مراكش إلى مصر في نحو سبعة أشهر . ومن مصر انضم الركب المراكشي إلى الركب الفاسي وخرجا مع الركب المصري قاصدين البلاد الحجازية وقد رجع ابن مليح بعد أداء الفريضة على نفس الطريق وهي تحتوي على ثمان ومائتي مرحلة .
وهذه الرحلة المسماة (انس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب وسيد الأعاجم والأعارب) من أنفس ما تضمه الخزانة المغربية التي تتطلب من أبناء المغرب عناية خاصة لإبراز ذخائرها وتجلية كنوزها التي غالبت الدهر ووصلتنا في نسخ غريبة أو فريدة .
(1) محل قاحل بطرابلس
المصدر : مجلة دعوة الحق
15 العدد السنة: 1958

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق