الاثنين، 30 يناير 2012

رحلة ابن رشيد الفهري السبتي: ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة الى الحرمين مكة و طيبة





ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة الى الحرمين مكة و طيبة ( الجزء الثاني)

ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة الى الحرمين مكة و طيبة المعروفة بـ : رحلة ابن رشيد السبتي (ت 721 هـ)
الجزء الثاني تحقيق : الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة [ جزى الله خيرا من قام بتصويره ورفعه]

ـــــ

طبعة الدار التونسية للنشر ، 1402 هـ - 1982 م 

 التحميل 


                                  

ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة الى الحرمين مكة و طيبة ( الجزء الخامس)


 الجزء الخامس  تحقيق : الدكتور محمد  الحبيب بن الخوجة نشر دار الغرب الاسلامي


















و بقية أجزاء الرحلة منها ما حقق و طبع و منها ما هو في طور التحقيق ... بخصوص رحلة ابن رشيد ، أن جرد المطبوع من الرحلة و منه استفدت ما يأتي:
طبع الثاني والثالث بتونس
ثم طبع الخامس بدار الغرب

وبقي من الكتاب:

الجزء السادس شرع الشيخ محمد بن الخوجة في الاشتغال به لكن لم ينجزه بعدُ
الجزء السابع نشر جزء منه ابن الخوجة في النشرة العلمية بالكلية الزيتونية
ونشر جزء منه أيضا شيخ شيوخنا: الفقيه محمد المنوني -رحمه الله-في مجلة المناهل الصادرة بالرباط
ويشتغل بالعناية بما لم يُنشر من الرحلة شيخنا عبد الهادي بن عبد الله حميتو وفقه الله وبارك في جهوده و نفع به ...


رحلة ابن رُشَيْدٍ السبتي أو ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة

تأليف أبي عبد الله محمد بن عمر ابن رُشيد السبتي

عدد الأجزاء 2

مطبعة إليت - الطبعة الأولى - 1424هـ / 2003م




بحث جامعي تناول فيه المؤلف بالدراسة والتحليل ما جمعه ابن رشيد في رحلته المشهورة من الفوائد العلمية في التفسير والحديث والفقه والأصول والتاريخ والتصوف والتراجم والأدب واللغة والنحو والطب وغير ذلك، مذيلا بفهارس علمية تسهل الطريق لنيل المبتغى.




ابن رشيد الفهري
ورحلة إلى المشرق
                                                                   
للأستاذ محمد الفاسي 

امتاز العصر المريني الزاهر بإقبال المغاربة على تدوين أخبار رحلاتهم، وكانت أقدم رحلة ألفت في هذا العصر هي الرحلة المغربية للعبدري. وقد برز المغاربة في هذا النوع الأدبي وبدوا غيرهم فيه حتى أن أشهر رحالة في العالم  وهو ابن بطوطة كان من أهل المغرب، وحتى أن أعظم رحلة ألفت  في العربية ألفها مغربي وهو الإمام ابن رشيد الفهري.
ولد أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر ابن محمد بن ادريس بن سعيد بن مسعود بن حسين بن محمد بن عمر الفهري بمدينة سبتة، ستة سبع وخمسين وستمائة، وكان من بيت عريق في المجد. وكانت مدينة سبتة في أوج عظمتها العلمية. فبدأ دراسته بها واخذ عن مشايخها، وكان اعتماده في علوم اللسان على أبي الحسين بن أبي الربيع قرأ عليه كتاب سيبويه واستوعبه وحصل على ثقافة واسعة إلا أنه مال من أول أمره إلى دراسة علم السنة وصناعة الحديث حتى تضلع منها، وصار له باع فيها طويل مما جعل ابن الخطيب يقول عنه : «كان رحمه الله تعالى فريد عصره جلالة وعدالة وحفظا وأدبا وسمتا وهديا واسع الأسمعة عالي الإسناذ صحيح النقل أصيل الضبط تام العناية بصناعة الحديث قيما عليها بصيرا بها محققا فيها ذاكرا للرجال(1)».
ولما بلغ السادسة والعشرين من عمره تاقت نفسه إلى أداء فريضة الحج وملاقاة علماء بلاد المشرق(2) ليكمل عليهم اختصاصه في علم الحديث ويحصل على أعالي الأسانيد وكانت له معرفة بالأديب الكاتب أبي عبد الله محمد بن حكيم الرندي، فاتفقا على السفر جميعا إلى المشرق فغادر كل منهما بلده والتقيا بمرسى المرية باب المشرق منها تبحر المركب الكبيرة قاصدة مراسي افريقيا الشمالية ومصر والشام.
وإننا نعلم تفاصيل رحلتها هذه، بما كتبه ابن رشيد في مؤلفه العظيم الذي سنتكلم عنه بعد، وهو الموجود منه خمسة أجزاء بخزانة الاسكوريال باسبانيا حيث وقفت عليها ولخصتها، وقد ضاع منه جزآن الأول أو بعضه وآخر في الوسط سنحقق أمره بعد أيضا، فلذا لا نعرف هل ذهب المركب بهما قاصدا مدينة تونس حيث نجدهما في أول جزء عندنا من هذه الرحلة، أم رسا بهما أولا في إحدى المراسي الأخرى كهنين أو الجزائر وعنابة.        
وأقام ابن رشيد بتونس مدة قضاها في التردد على مشايخها وتقييد الفوائد عنهم في شتى الفنون خصوصا في علم الحديث، وقد ضمن كل ذلك رحلته الثمينة مع تراجم كل من لقيهم من العلماء والأدباء وغيرهم.
ومن تونس سافر إلى الإسكندرية ولا ندري هل كان ذلك على طريق البر أم البحر أم البعض برا إلى طرابلس مثلا والباقي بحرا، وذلك لأن الجزء الذي تعرض فيه لسفره من تونس ومقامه بالإسكندرية مبتور الأول والآخر.
وقد أقام مدة بالإسكندرية مشتغلا بالبحث والتنقيب، دائم التردد على كل من يشار إليه بمعرفة في فن من الفنون، مقيدا كل ما يسمع وما يرى، ثم انتقل إلى القاهرة وحل بها يوم سابع رجب سنة أربع وثمانين وستمائة وقضى بها مدة وهو مقبل على الدراسة والاستفادة، لا ندري كم أقام بها. ولا متى حل بدمشق التي زارها بعد خروجه من مصر، ولا المدة التي بقي فيها بدمشق كل ذلك لضياع جزء لاشك أنه كان خاصا بهذه الأخبار.
وقصد بعد ذلك البلاد الحجازية فدخل المدينة أولا في طريقه من دمشق ثم مكة، وحج في موسم سنة أربع وثمانين، ثم رجع إلى المدينة ومنها إلى مصر فالإسكندرية، وهو في أثناء كل ذلك لا يفتر عن التقيد والبحث عن علماء كل بلد وأدبائه والأخذ عنهم ونقل أخبارهم وإفادتهم وإنشاداتهم.
      وفي اليوم الرابع من ربيع الأول خمس وثمانين وستمائة، غادر الاسكندرية مبحرا قاصدا طرابلس الغرب فقضى بها بضعة أيام ثم غادرها وسار حتى وافى مدينة المهدية، وبحث فيها أيضا عن مشاهيرها على عادته في التنقيب عن أهل العلم والأدب، ومنها سار إلى مدينة تونس، فدخلها يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الثاني سنة خمس وثمانين وستمائة.
وكانت مدينة تونس في ذلك العصر قد بلغت على عهد الدولة الحفصية الفتية أعلى مدارج الرقي العلمي وصارت في مصاف العواصم الإسلامية الكبرى كالقاهرة ودمشق وغرناطة وفاس، وقد رأينا في حديثنا الأول عن الرحالة العبدري إعجابه بها وقد زارها سنتين بعد ابن رشيد وإنما أخرنا الكلام على ابن رشيد لأنه لم يتوف إلا بعد اثنتين وثلاثين سنة من رحلة العبدري، ولم يكن إعجاب ابن رشد بمدينة تونس وبأهلها وعلمائها ليقل عن إعجاب العبدري، وقد برهن على ذلك بمقامه بها في رجوعه سنة كاملة تفرغ فيها للاستفادة أكثر ما كان في إمكانه من مشايخها، وقد فارقه بها صديقه ابن الحكيم ورجع لوطنه، حيث كان ينتظره مستقبل زاهر إذ صار بعد ذلك كاتبا لمحمد الثاني ألنصري صاحب غرناطة ثم رقاه بعد ذلك إلى منصب الوزارة.
أما ابن رشيد فإنه بعد أن أقام تلك المدة كلها بمدينة تونس، اشتاق إلى وطنه فغادرها يوم الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الثاني سنة ست وثمانين وستمائة وقصد بلاد المغرب على طريق البحر، ومما يلاحظ بهذه المناسبة أنه بخلاف جل الرحالة المغاربة يؤثر السفر في البحر ولعل ذلك لأنه من أبناء المراسي وقد ربي بمدينة سبتة، فهو لا يهاب ركوب المراكب واختراق لجج البحر لاعتياده رؤية ذلك، وقد رسا به المركب ببونة قاعدة بلاد العناب المسماة اليوم عنابة فاجتمع بقاضي البلاد وبالوالي، ثم أبحر ونزل بمراس أخرى إلى أن وصل مدينة مالطة بالأندلس وإليها كان متوجها المركب الذي ركب فيه، ولم يقصد وطنه في الحين بل أزمع السفر إلى مدينة رندة لملاقاة صديقه ابن الحكيم، وقد كانا تواعدا عل ذلك لما كانا بتونس، وقبل خروجه من مالطة بحث عن علمائه وأخذ عنهم وذكرهم في رحلته الجامعة وقضى بها أسبوعا ثم توجه إلى رندة حيث التقى بصديقه ابن الحكيم وبحث أيضا عن مشاهيرها وأخذ عنهم، وقصد الجزيرة الخضراء ومنها أبحر إلى مدينة سبتة «والشوق قد برح، والفم قد صرح، والديار قد تدانت والأعلام قد تراءت» كما قال في آخر جزء من رحلته ودخل وطنه يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر جمادى الثانية سنة ست وثمانين وستمائة بعد أن تغيب عنها ثلاث سنوات قضاها كلها كما رأينا في الإقبال على التزود من المعارف والبحث عنها في مضانها البعيدة والقريبة حتى حصل منها على أكبر حظ وأوفره.
وتصدر بعد ذلك للإقراء ببلده وبدأ صيته ينتشر وأقبل على تأليف الكتب المفيدة خصوصا في الفن الذي تخصص فيه وهو علم الحديث، وإنا لا ندري بالضبط السنة التي بدأ فيها تدوين أخبار رحلته، حيث لم يرد شيء من ذلك في الأجزاء التي بقيت لنا من هذه الرحلة، وغنما نعلم أن ذلك وقع قبل سنة عشرين وسبعمائة، إذ قيد على آخر أجزائها سماع الأديب
  
الكاتب عبد المهيمن الحضرمي الذي سنتكلم عنه  في العصر المريني الثاني وأرخ ذلك السماع بشهر جمادى الثانية من السنة المذكورة.
ولكن يظهر لنا، أنه على عادة أكثر من يدونون حوادث رحلاتهم، بدا ذلك وهو مسافر ثم لما رجع إلى بلده أخذ في تنسيق تقاييده وترتيبها ليخرجها للناس للإفادة أولا ثم للدلالة على مبلغ علمه وشهادة علماء الأمصار له، إذ كانت الرحلة بمثابة الأطروحات التي يكلل بها علماء وقتنا دراساتهم، والتي تبرهن على تفوقهم وعلو كعبهم في العلوم التي تخصصوا فيها.
وبعد أن قضى بسبتة خمس سنوات وجه إليه صديقه ابن الحكيم يستدعيه وقد كان حصل على كبير الحظوة عند ملك غرناطة محمد بن محمد بن الأحمر، وهو محمد الثاني، فلبى دعوته وقصد غرناطة فحل بها سنة اثنتين وتسعين وستمائة فعين للخطابة والإمامة بجامعها الأعظم، وأخذ يلقي دروسا ممتعة في المسجد المذكور فكان –كما قال ابن حجر في الدرر الكامنة- يشرح من البخاري حديثين يتكلم عن سندهما ومتنهما أتقن كلام(3).
وكانت للوزير اللوذعي أبي عبد الله ابن الحكيم أكبر العناية بصديقه العلامة «فكان إذا فرغ من الخدمة يجيء إلى ابن رشيد فيباشر خدمته بنفسه أحيانا ويبالغ في إكرامه» وكان موضع احترام سائر أهل غرناطة لما رواه فيه من متانة الدين وعلو الكعب في سائر العلوم وحرصه على إفادة طلابه.
وقد كانت له مع تخصصه في علوم الحديث مشاركة في غيرها وقد قال عنه ابن الخطيب بعد الفقرة التي تقدم لنا نقلها : «(كان) متضلعا من العربية واللغات والعروض فقيها أصيل النظر ذاكرا للتفسير ريان من الأدب حافظا للأخبار والتواريخ مشاركا في الأصلين عارفا بالقراآت»(4)        
وكان يقرئ بغرناطة غير ما فن ويعقد مجالس للخاص والعام، فصارت له بسبب كل هذا مكانة علمية ودينية لا تداني، ولما توفى المحدث الكبير أبو جعفر ابن الزبير صاحب كتاب صلة الصلة، وقد كان قاضي المناكح بغرناطة، أضيف هذا الوظيف؛ لابن رشيد إلا أنه لم يبق فيه إلا مدة يسيرة، وذلك أن صديقه ابن الحكيم وقعت له نكبة فقتل سنة ثمان وسبعمائة وخلع سلطانه، وقد حاولت اليد الآثمة أن تعتدي عليه أيضا بالسوء فحفظه الله وفر من غرناطة ولحق بحضرة فاس حيث كانت سبقته الشهرة والذكر الجميل.
فحل بها معززا مكرما، واحتفى به سلطان المغرب أبو الربيع سليمان المريني أي احتفاء، وخيره في المقام أين شاء من مدن إيالته، فاختار سكنى مدينة مراكش لأنه كان تقدم له أن دخلها وأعجبته فساعده على ذلك أبو الربيع وانتقل إليها فعين خطيبا وإماما بجامعها العتيق وأقبل على تدريس العلم بها وقضى بها مدة لا نعرفها بالضبط، إذ إن كنا نقدر أنه لم يقم بفاس إلا يسيرا ريثما تم له أمر الانتقال إلى مراكش فإنا لا ندري متى غادرها، إذ يكتفي كل من ترجمه بالإشارة إلى أن السلطان استدعاه بعد ذلك من مراكش إلى فاس فلبى الدعوة وقصد مدينة فاس واستوطنها آخر أيام حياته.
ولا يقوم لنا متى وقع ذلك ولا من هو السلطان الذي استدعاه إلا أن التاريخ يعيننا على تعيينه، وذلك أن أبا الربيع توفى في آخر شهر جمادى الثانية سنة عشر وسبعمائة فلا يعقل أن يكون هو الذي استدعى ابن رشيد؛ إذ لم يكن قضى إذ ذاك بمراكش إلا نحو السنة فيكون الذي استدعاه هو السلطان الجليل أحد مفاخر الدولة المرينية أبو سعيد عثمان بن يعقوب وقد بقي على عرش المملكة إلى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
ولما حل ابن رشيد بمدينة فاس اقبله السلطان أبو سعيد بكل ما يليق بمقامه من الإجلال وصار من خواصه، ولا يبعد أن يكون استدعاه في أول أمره، ولم يكن الاتصال المتين الذي كان له بالملك ليمتعه من الإقبال على تبليغ رسالته العلمية، فكان يقضي جل أوقاته في نشر العلم وتأليف الكتب التي خلدت ذكره.           
وبقي على هذه الحال إلى أن توفي بفاس في الثالث والعشرين لشهر المحرم سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ودفن خارج باب الفتوح بالروضة المعروفة بمطرح «الجلة» المشتملة على العلماء والصلحاء والفضلاء من الغرباء الواردين مدينة فاس كما قال ابن الخطيب : «ومطرح الجلة هذا صار يقال له مطرح الجنة تفاؤلا».    
كان ابن رشيد قبل كل شيء إماما في الحديث وكان أكثر اشتغاله بالعلوم الحديثية وكان لذلك على مذهب أهل الحديث في الصفات يقبلها على ظاهرها ولا يبحث في تأويلها، فاتهمه أعداؤه –على ما نقله ابن حجر في الدرر الكامنة عن سير النبلاء للذهبي- بأنه لم يكن مالكيا. ولنورد نص ما قال الذهبي بالحرف :
«وأخبرني ابن المرابط قال : كان شيخنا ابن رشيد على مذهب أهل الحديث في الصفات يمرها ولا يتأول وكان يسكت لدعاء الاستفتاح ويسر البسملة فأنكروا عليه وكتبوا عليه محضرا بأنه ليس مالكيا فاتفق أن القاضي الذي شرع في المحضر مات فجأة وبطل المحضر(5)». 
ولكنا لا ندري أين وقع هذا الاتهام ولا متى، وعلى كل حال فهو يدل على تعصب كبير إذ لمن بلغ مبلغ ابن رشيد في العلم والتقوى أن يتمذهب بما شاء من المذاهب السنية.
وكان ابن رشيد خطيبا بليغا ينشئ الخطب البديعة وتارة يرتجلها كما وقع له مرة بمسجد غرناطة –على ما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة المخطوطة- قال : «حكى عنه انه قام للخطبة يوما بعد فراغ المؤذن الثاني ظنه الثالث فلما قام نادى المؤذن الثالث، فقال بديهة : أيها الناس رحمكم الله أن الواجب لا يبطله المندوب وأن الآذان يعد الأول غير مشروع الوجوب فتأهبوا لطلب العلم وانتبهوا وتذكروا قول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوه) فقد روينا عنه صلى الله عليه وسلم انه قال : من قال لأخيه والإمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له، جعلني الله وإياكم ممن علم فعمل وخوطب فقبل واخلص فتخلص. وذلك مما استدل به على قوة مطاوعة لسانه له».
وكان ابن رشيد يقرض الشعر أيضا إلا أنه كانت تظهر على شعره آثار التكلف ومن شعره هذان البيتان قالهما في البحر وقد انبسط عليه ضوء القمر ليلة البدر :
انظر إلى البدر قد مدت أشعتـه
                         على خضاره حتى ابيض أزرقـه
والريح قد صنعت درعا مسامرهـا
                         حبـاب بـرق بـدا للعين  رونقـه
وله أيضا
تغـرب ولا تحفل بفرقة موطــن
                         تفز بمنى في كل ما جئت من حـاج
فلولا اغتراب المسك ما حل مفرقـا
                         ولولا اغتراب الدار ما حل في التاج
وقد أورد له ابن الخطيب في الإحاطة –كما بالجزء المخطوط منها الموجود بخزانة  الاسكوريال- قصيدتين أخريين.
وبالجملة فقد كان ابن رشيد جامعا لفضائل جمة، وقد وصفه الإمام الذهبي في سير النبلاء فقال فيه، كما نقله ابن حجر في الدرر الكامنة : «كان ورعا مقتصدا منقبضا عن الناس ذاهبية ووقار، يسارع في حوائج الناس، يجلب المصالح ودرء المفاسد، يؤثر الفقراء والغرباء والطلبة لا تأخذه في الله لومة لائم».
أما تأليفه فجعلها كما قدمنا في الحديث، وأهمها رحلته التي طبق ذكرها الآفاق، وإن كانت لا يوجد منها اليوم نسخة كاملة.
بدا كتابه هذه الرحلة مدة غيبته وأتمها بعد رجوعه، وقد ضمنها ذكر شيوخه الكثيرين الذين أخذ عنهم بأمصار المشرق والمغرب، ومن أشهرهم قطب الدين القسطلاني والحافظ عبد العظيم المنذري وشرف الدين ابن عساكر الدمشقي وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
وقد أثنى على هذه الرحلة كل من ذكر مؤلفها فمن ذلك ما قاله ابن الخطيب في الإحاطة : «فيها فنون وضروب من
الفوائد العلمية والتاريخ وطرق من الأخبار الحسان والمسندات العوالي والأناشيد وهي ديوان كبير لم يسبق إلى مثله» وقال عنها المقري في أزهار الرياض : «أودع فيها ذكر أشياخه وجمع فيها من الفوائد الحديثة والأدبية كل عجيبة وغربية».
وقد كانت أجزاء من هذه الرحلة توجد بمكة المكرمة حيث وقف عليها السيوطي كما ذكر ذلك في بغية الوعاة، وذكر العياشي بعد ذلك في رحلته أنه رأى منها بمكة أيضا عند شيخه أبي مهدي الثعالبي عدة أجزاء ونقل منها فوائد كثيرة وإنشادات عديدة وكان منها بفاس أيضا نسخة أو بعض الجزاء إلى القرن الحادي عشر حيث نرى شيخ الإسلام أبا السعود الفاسي ينقل عنها مباشرة.
ولكن اليوم لم يبق جزء واحد من كل هذه النسخ ببلد من بلاد الإسلام، وكل ما بقي لنا منها هي الأجزاء الخمسة المحفوظة بخزانة دير الأسكوريال قرب مجريط بإسبانيا تحتوي على ذخائر ثمينة جلها من مؤلفات أهل المغرب الأقصى والأندلس، وقد كانت التآليف التي تتركب منها هذه الخزانة ملكا للسلطان السعدي زيدان ابن المنصور وكانت محمولة في سفينة سقطت في أيدي قراصين اسبانيين أخذوها وذهبوا بها إلى بلادهم وقدموها هدية لملكهم فأمر بجعلها في الدير، الذي كان أمر ببنائه وهو دير الاسكوريال على نحو ستين كيلو مترا من شما العاصمة الاسبانية.
وقد وقفت عليها بهذه الخزانة في أحد تردداتي عليها، يقصد دراسة ما فيها من الرحلات وغيرها من المؤلفات التي تهم تاريخ بلادنا الأدبي، وكان ذلك في شهر شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف.
واختلف المؤلفون في عدد الأجزاء التي تتركب منه الرحلة فمنهم من ذكر أنها أربعة كالمقري في أزهار الرياض، ومنهم من جعلها خمسة وهو قاسيري مؤلف برنامج الاسكوريال، وتبعه في ذلك العلامة بروكلمان ومنهم من جعلها سنة كالسيوطي وغيره وبتحليلنا للأجزاء التي وقفنا عليها بالاسكوريال تظهر الحقيقة.
أجزاء الاسكوريال خمسة أشير إلى كل واحد منها بحرف من حروف الجمل : ألف، با، جيم، دال، ها، منها ثلاثة بخط المؤلف وهي ألف، جيم، دال.
وأول الأجزاء  التي كانت تتركب منها النسخة التامة مفقود، وكان يشتمل على المقدمة، وذكر السفر من سبتة إلى المرية ثم الإبحار منها إلى أن وصل إلى تونس وذكر دخوله لهذه الحاضرة. والجزء الثاني وهو الأول من الأجزاء الخمسة الموجودة بالاسكوريال، والذي نشير إليه بحرف الألف يبتدئ بقوله : «وممن لقيناه بتونس مقدمي عليها من بلاد المغرب يرسم الوجهة الحجازية يسر الله مرامها» ودعاؤها هذا يدل على أنه بدأ كتابة رحلته أثناء سفره. وكل هذا الجزء فيمن لقيهم بتونس من الفضلاء والعلماء والكتاب مع استطرادات مفيدة وقد كان هذا المجلد في ملك الإمام المنجور ثم صار لولده عبد السلام وهو يقع في ست وستين ورقة «عدده 1736».
والجزء الثالث وهو المشار إليه بحرف باء، مبتور الأول ويبتدئ ما يوجد منه : «وممن لقيناه أيضا بثغر الاسكندرية» وعلى هذا ينقصه ذكر الخروج من تونس إلى أن وصل الاسكندرية بحرا أو برا مع ذكر عدد ممن لقيهم بها من الفضلاء. وهذا الجزء يحتوي على وصف مشاهد الاسكندرية ومن ذلك قوله في وصف مناره، وقد كان من أشهر آثار الدنيا وما مر كاتب بذلك المرسى ولم يتعرض له في رحلته قال فيه ابن رشيد رحمه الله : «ومن عجائب الاسكندرية منارها الذي يعجز عنه الواصف ويحار فيه الراصف وضخامته من داخله أكثر مما هي خارجه، وهو من عجائب المصنوعات وغرائب المرئيات : فاس على عشرين قدما، وذكر لي بعض الأصحاب أنه أخذ ارتفاعه بالأسطر لأب فألقي القاعدة ستين قامة والفحل الوسط أربعين والفحل الأخير عشرين والله أعلم» وفي هذا الجزء ذكر سفره إلى القاهرة والكلام على من لقيهم بها وهو مبتور الآخر أيضا وقد كان في ملك الفقيه أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي صاحب المعيار ثم لحفيده محمد بن عبد الرحمان ثم للمنجور وقد كتب على ظهر أول ورقة من هذا المجلد –الثالث من رحلة ابن رشيد «عدده 1739».
الجزء الرابع مفقود وهو الذي كان يحتوي على ذكر سفره من القاهرة إلى أن وصل إلى دمشق مع وصف المقام بالعاصمة الأموية وذكر من لقيهم بها من الفضلاء إلى أن غادرها، ودليل ذلك أن الجزء الذي يليه يبتدئ بقوله : ذكر توجهنا من دمشق حماها الله تعالى إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.
الجزء الخامس من الأجزاء الثلاثة التي بخط المؤلف، ونشير إليه بحرف جيم وهو يبتدئ بما ذكرنا من سفره من دمشق ويحتوي على وصف الطريق إلى
المدينة ثم وصف المدينة المنورة وذكر من لقيهم بها من الفضلاء ثم وصف الطريق بينها وبين مكة المكرمة، ثم وصف الحج ومناسكه وما يتعلق به، وذكر من لقيهم بمكة ومنى وعرفات، ثم خروجه من مكة ورجوعه إلى المدينة المنورة ثم مغادرتها وقد أهل عليه هلال محرم سنة خمس وثمانين وستمائة في الطريق وصار إلى أن وصل القاهرة وذكر أيضا من لقيهم بها في هذه المرة الثانية ثم قصد الاسكندرية وذكر من لقيه بها في الصدور ممن لم يكن لقيه في الورود، وبذلك ينتهي هذا الجزء وقد كان أيضا في ملك الونشريسي والمنجور، عدده 1680 وقد كتب عليه أنه الخامس من رحلة ابن رشيد والجزء السادس هو الجزء الثالث من الأجزاء التي بخط المؤلف ونشير إليه بحرف دال يحتوي على ذكر سفره من الاسكندرية بحرا إلى أن وصل طرابلس فتونس حيث أقام سنة كما قدمنا وذكر في هذا الجزء عددا كبيرا ممن لقيهم بتونس في رجوعه أو تجدد له لقاؤه مع استطرادات مفيدة وإيرادات لطيفة تنم عن أدبه وذوقه «عدده 1737».
الجزء السابع ونشير إليه بالحرف هاء هو الخير وفيه بقية الكلام على تونس وأدبائها وعلمائها وخبر رحلته عنها إلى أن وصل مسقط رأسه «عدده 1735» وهذا الجزء من الجزأين «ألف ودال» من اهم المصادر عن تاريخ الأدب العربي بتونس في القرن السابع.
ومما تقدم يتبين أن رحلة ابن رشيد واسمها «ملء الغيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» كانت تتركب من سبعة أجزاء لا من ستة ولا من أربعة كما ذكر، وسبب هذا الاختلاف هو ما يقع كثيرا في مثل هذه الكتب ذات الأجزاء الكثيرة من تصرف النسخة في تقسيمها فمنهم من يجعل الأجزاء صغيرة فيكثر عددها ومنهم من يجعلها كبيرة فيصفر؛ ولكن يظهر من ذلك أنها كانت تتركب في الواقع من ستة أجزاء إلا أن الأول كان ينقسم هو بدوره إلى جزأين والدليل على ذلك أن الجزء «ألف» كتب عليه هذه العبارة –الثاني من الأول وعلى هذا فلا ينقص نسخة الاسكوريال إلا نصف الجزء الأول والجزء الرابع وبعض أول الجزء الثالث وآخره.
ولابن رشيد مؤلفات أخرى منها اثنان لا يزالان محفوظين بخزانة الاسكوريال أيضا وهما «السن الأبيين والمورد الأم عن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعن عن» وقد ألفه في مدرسة سبتة سنة خمس وتسعين وستمائة والنسخة التي بالاسكوريال عليها خط المؤلف بالمقابلة على النسخة وتاريخ ذلك سنة اثنين وسبعمائة.
والثاني كتاب الإفادة النصيح بالتعريف بأستاذ «الجامع الصحيح» وقد ذكر فيه عددا من المحدثين والنسخة التي بالاسكوريال بخط أبي عبد الله محمد ابن هانيء  اللخمي السبتي وسنتكلم عنه فيما بعد إن شاء الله وعليها خط المؤلف أيضا بتاريخ سنة ست وسبعمائة.
وله دون ذلك مؤلفات لم يبلغنا إلا أسماؤها ومنها ترجمان التراجم في إبداء وجه مناسبة –تراجم البخاري لما تحثها مما ترجمت عليه. ومنها «أحكام التأسيس في أحكام التجنيس» ومنها «الإضاءات والإنارات في البديع» وكتاب «وصل القوادم بالخواف في ذكر أمثلة القوافي» شرح فيه كتاب القوافي لشيخه أبي الحسن حازم وغير ذلك من التآليف في شتى الفنون.
ويحسن قبل أن نختم هذا الحديث أن نشير إلى وهمين منتشرين حول ابن رشيد الفهري أحدهما أن بعض من ذكره من المعاصرين قال عنه أنه سافر مرتين وقد رأينا أنه لم يرحل إلى المشرق إلا مرة واحدة. والوهم الثاني أعظم من الأول وهو أن كثيرا من المستشرقين يجعلون من ابن رشيد شخصيتين وذلك أن أحدهم ظن أن الونشريسي الذي يرد اسمه على الأجزاء التي كانت في ملكه هو المؤلف لها. ووهم في اسمه جاعلا له الونشريسي وكذا نجد في كثير من كتب تاريخ آداب اللغة العربية في باب الرحلات –رحلة ابن رشيد ورحلة الونشريسي.
  ونرجو في الختام أن يوفق أحد العلماء ممن يشتغلون بهذا الفن إلى نشر أجزاء رحلة ابن رشيد المحفوظة بخزانة الاسكوريال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق