الخميس، 2 فبراير 2012

رحلة الفقيه العلامة الصديق الشدادي إلى المشرق 1938


مشاهدات رحالة مغربي :  أوضاع الشرق العربي عام 1938
        ولد الفقيه العلامة الصديق الشدادي عام 1310 هـ بمدينة الرباط ، ونشأ بها في رعاية والده ( محمد الشدادي ) الذي كان من الطلبة الذين وجههم المولى الحسن إلى أوروبا للدراسة بمعاهدها العسكرية والوقوف على أسلحتها المتطورة ، وعندما عاد إلى المغرب انخرط في سلك الجندية وتدرج في مراتبها . إلى أن أصبح ( قائد الرحا ) وبحكم النشأة العسكرية، عمل الصديق الشدادي في شبابه في الجندية وظل بها إلى أن فرضت الحماية الأجنبية على المغرب عام 1330 هـ/1912 م .
        قام العلامة الصديق الشدادي برحلة إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج والعمرة دامت نحو الأربعة أشهر ( من قعدة عام 1356 إلى صفر عام 1357 ) الموافق ( يناير - أبريل 1938 ) .
        ومن بلاد الحجاز بالمملكة العربي السعودية توجه إلى العراق وزار النجف وكربلاء وبغداد ومنها إلى دمشق فمدينة القدس عبر القنيطرة وطبرية والناصرة ونابلس ، كما زار مدينة بي تلحم ومدينة إبراهيم الخليل . ومن القدس قصد بيروت مرورا بمدينة حيفا وعكا وصيدا . وفي بيروت ركب البحر عائدا إلى المغرب .
        من الملاحظات الهامة التي تثير انتباه الدارس لمذكرات العلامة الشدادي :
        - حرصه على زيارة العواصم الرئيسية في المشرق العربي ( القاهرة - مكة - المدينة - بغداد - دمشق - القدس - بيروت ) التي كانت مركز الانبعاث الثقافي القومي والإسلامي ومنطلق الأحداث السياسية ضد الاستعمار الفرنسي والإنكليزي وضد الهيمنة الصهيونية بفلسطين . 

 - التركيز على الجانب التعليمي والثقافي والإشادة بأعلام الفكر العربي الإسلامي (بناة النهضة الحديثة ) ويدخل في هذا الجانب أحوال التعليم الأصيل ودور المساجد في بث اليقظة والوعي والمكانة التي أصبحت للجامعة وكلياتها المختلفة الدينية والأدبية والعلمية وفق مناهج البحث العلمي الحديث .
        - الوقوف على الأحوال السياسية لأقطار الشرق العربي :
        1 - أنماط الحكم - الحكومات العربية - الوزارات والإدارات ...
        2 - الحدود المصطنعة التي فرضها الاستعمار وقسم بموجبها بلاد الشرق العربي .
        3 - ما يعانيه العرب من الاحتلال الأجنبي الفرنسي والإنكليزي .
        4 - تطور المواجهات العربية - الصهيونية بفلسطين .
        ومن جهة أخرى أولى الفقيه الشدادي الجانب العسكري في بعض أقطار الشرق العربي عناية خاصة وذلك راجع إلى تربيته العسكرية وإلى ما كان يرى ضرورته لمواجهة الاحتلال الأجنبي .
        إلى جانب الوقوف طويلا عند الماضي التاريخي لأقطار الشرق العربي سواء في عهودها القديمة أو خلال التاريخ العربي الإسلامي . وأخيرا حرص العلامة الصديق الشدادي على نقل عدد من الكتب المتعلقة بموضوعات دينية ولغوية وفقهية وفي التاريخ والجغرافيا والحساب وغيرها وأقر تدريسها في مدرسته ( بالزاوية المعطوية ) بالرباط .
        من الأقطار العربية التي زارها العلامة الصديق الشدادي في الشرق العربي :
        1 - في بلاد مصر
        °  زرنا مجلة الفتح لصاحبها خطيب الدين يجاور السيدة زينب رضي الله عنها .
        ° كما زرنا مجلة الإسلام لصاحبها أمين قرب العتبة الخضراء وزرنا أيضا الجامعة وبها كليات متعددة واجتمعنا برئيس الكلية الأدبية الأستاذ طه حسين .
        ° وزرنا المعهد الأزهري النظامي واجتمعنا بالأستاذ أحمد أمين صاحب " ضحى الإسلام " .
        ° والأستاذ الخولي وجدناه يدرس " ديوان " ابن الرومي ، والأستاذ الشاذلي يدرس " الشعر والشعراء " لابن قتيبة .
        2 - في بلاد العراق
        غادرنا المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام على الساعة ( 9 ) عصرا يوم الأحد 11 محرم الحرام سنة 1357 على متن السيارة قاصدين مدينة النجف أولا فبتنا بمحطة الحنك وهي محطة بها نخيل وزروع ثم رحلنا صباح غد فقلنا بمحطة ذي الخليفة وهي محطة بها نخيل كثير وزرع أيضا ثم بتنا بمحطة يقال لها الغزالة ومنها صباحا إلى القرية الكبيرة المسماة بحايل تابعة لحكومة ابن السعود أميرها من كبار أصحابه يقال له عبد العزيز بن سعيد من أكابر الكرماء لا يجلس للحكم إلا بعد أن يقرأ بين يديه قارئ شيئا من البخاري . دخلنا هذه القرية قرب زوال يوم الثلاثاء 13 من شهره فدخلنا إلى داخل البلد في صحبة رفيقي الفقيه العلامة النبيل السيد علي بن محمد الكردي المديني ثم الشامي ذهبنا إلى دار صاحب له يقال له علي بن عبد العزيز الحايلي بنا وفرح زائدا والحمد لله وأكرمنا . والبلدة المذكورة تشتمل على مدرسة سعودية حكومية أسست عام 1356 بها نحو 500 تلميذ يقرأ فيها القرآن وتدرس فيها العلوم الابتدائية مديرها مصري عبد الخالق عامري ، وبها أسواق كبيرة على الطراز العربي القديم بها دكاكين فيها حرف وبها دكتور فريد السبكي المصري وآخر محمد إسماعيل كنزري من المدينة المنورة ، وبها من المساجد نحو الأربعين ولكن ليس للجمعة منها إلا واحد بها آلة برقية لا سلكية زرناها صباح يوم الأربعاء أسست سنة 1351 يرأسها هاشم خليفة المدني وقد أقمنا بالبلدة المذكورة نحو اليومين ثم سرنا الخميس والجمعة وبتنا مقيمين وقتا لانتظار بقية القافلة ورحلنا منها يوم الأحد صباحا وبعد الزوال وصلنا إلى حدود العراق فوجدنا الدليل في انتظارنا ومعه مدرعة رشاشة ثم صرنا نحو الساعة فوجدنا خيما مضروبة وفي إحداها مفوض العراق فسرح لنا على الباسبورات بعد أداء سبعمائة فلس ( ربع دينار ) وبتنا هناك وقمنا صبيحة يوم الاثنين 19 من شهره وسرنا مشيا حثيثا من الساعة الواحدة صباحا إلى التاسعة فوصلنا إلى محطة يقال لها الرحبى فوجدنا بها خيما للدكاترة لاختبار صحة الحجاج وعلى الساعة العاشرة دخلنا النجف ونزلنا بفندق الحاج قاسم العربي بالسوق الكبير حول الحرم العلوي بثلاثين فلسا وزرنا قبر الإمام على رضي الله عنه وعليه قبة عجيبة داخلها وأعلاها وما حولها ومناراتها كل ذلك من الذهب وداخلها أيضا كله من زجاجات البلور مكتوب على الباب الخارجي : خير البشر بعد رسول الله الإمام علي .
        وفي داخل القبة تاج بعض الملوك كله مرصع وفوق قنديل مرصع . وزرنا الكوفة يوم 20 وشاهدنا مسجد الإمام علي الكبير وفيه عدة مقامات : مصلى علي ومحراب للنبي ومحراب لجبريل وآخر لآدم ومصلى نوح والتنور الذي قال فيه الله : ( وفار التنور ) . وفيه مقام مسلم بن عقيل بن أبي طالب وقبر هانئ بن عورة وقد زرناهما ودخلنا إلى داخل البلد وفيها سكان يبلغون نحو العشرة آلاف وفيها عشرة مساجد للجمعة منها اثنان والسكان خارج البلد يبلغون نحو العشرين ألفا وفي داخلها أسواق وصناعات وزرنا بها ضريح نبي الله سيدنا يونس عليه السلام وهو على شاطئ الفرات وعليه كثير النخل تسقى منه ، وفي النجف مدرسة أهلية يبلغ عدد تلاميذها 500 ، تدرس بها اللغة العربية والعلوم العصرية واللغة الإنجليزية .
        وفي مساء الثلاثاء 20 منه سافرنا على متن السيارة قاصدين كربلاء وبينها وبين النجف 75 فدخلناها بعد الغروب ونزلنا بأعلى فندق منها وهو فندق شاطئ الفرات وزرنا بها مقام سيدنا الحسين وهو مقام رفيع قبته من ذهب وواجهته كلها مرصعة بالذهب وكل داخله مرصع بمرآة البلور وبداخله مقبرة كبيرة للشهداء ( 72 ) الذين استشهدوا مع سيدنا الحسين رضي الله عنه به محل استشهاده رضي الله عنه وبه فيمحل سفلي وبداخله مدفنه ومحراب كتب فوقه ( وهزي إليك بجدع النخلة ) .
        كما زرنا أيضا ضريح العباس بن علي كرم الله وجهه هناك وله قبة بهيجة مذهبة وخرجنا من البلدة المذكورة نهار الأربعاء ، واكترينا بمبلغ 130 فلسا في السيارة الصغيرة ، قاصدين بغداد فمررنا على قرية المسيب ثم قرية تسمى الإسكندرية ثم أخرى تسمى المحمودية وبين البلدين من عدد الكيلومترات 113 .
        وحللنا ببغداد عند العصر يومه ونزلنا بمنزل المتنبي بشارع الرشيد الكبير وللبلدة المذكورة منظر بهيج وشكل بديع وقد زرنا بها ضريح مولاي عبد القادر الكيلاني ومدير الحضرة الكيلانية هو سيدي محمد سعيد القادري ، وبداخل الضريح  المذكور مسجد كبير تقم فيه الجمعة أديناها فيه بتاريخ 23 من الجاري أمامه حنفي وبداخل هذا المسجد مسجد آخر رتب له إمام شافعي يصلي معه الشافعية وخارج الضريح بالصحن عدة بيوت لإقامة الغرباء من الهند والأفغان والمغاربة لهم  خراج خاص لمأكلهم .
        وقفنا في بغداد على ضفة دجلة على آثار مدرسة قديمة من إنشاء العباسيين كتب على جدرانها :
        ( ما شاء الله ، بسم الله الرحمن الرحيم ، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير إلى (المفلحون) قد كان إنشاء هذا البناء في زمن خلافة عبد الله أبي جعفر المنصور المستنصر بالله العباسي في سنة ثلاثين وستمائة وقد تجدد تعميره في زمن خلافة ظل الله في سنة 1282 ) .
        وقد اندرست ساعته وما بقي من الآثار الباقية إلا أطلال بالية وبني محلها سوق كبير وصارت أرضها معدة لوضع ما يرد من السلع لأجل أداء الجمرك كما وقفنا على مسجد من آثار العباسيين يقال له جامع مرجانة .
        وزرنا ضريح سليل رسول الله مولانا موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ين زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومعه سيدنا محمد الجواد بن الرضى وهو مقام عظيم عليه بناء عظيم به قبتان كل واحدة مموهة بالذهب وأربع مآذن كلها موهت بالذهب وداخل القبتين والمسجد الحائط بهما كل سقوفه مرصعة بالزجاجات البلورة والحاصل أنه مقام تحار فيه الأنظار ويقف دونه القلم والألباب وأهل هذه القرية وهي على ضفة الدجلة كلهم شيعة وله بلاط كبير به من الأقواس 86 وله أبواب ستة .
        وفيه زرنا ضريح مولانا الإمام الأعظم النعمان أبا حنيفة رضي الله عنه وهو بقرية على ضفة دجلة وضريحه رضي الله عنه داخل مسجد عظيم تعلوه مهابة تقشعر منها الجلود والمسجد المذكور تقام فيه الجمعة وله قبة عظيمة محاطة بعمل السواري ومكتوب على محرابه : ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) إلى ( بغير حساب ) وعن يساره لوح كتب فيه : لو كان العلم معلقا عند الثريا لناله رجال من فارس . وزرنا يوم السبت 24 منه ضريح مولانا الغزالي وله قبة صغيرة بمقبرة باب الشيخ وهناك قبر شهير يقال له جمال وآخر يقال له صاحب الزمان، وفيه زرنا مقام سيدي معروف الكرخي وفي مقبرته الكبرى ضريح السيدة زبيدة زوج الرشيد أم البنين .
        3 - في بلاد الشام
        وكان وصولنا إلى الشام على الساعة التاسعة يوم الثلاثاء 27 فنزلنا وذهبت للمسجد الأموي فشاهدت ما يدل على عظمة سابقية الإسلام أن به منظرا يحار فيه البصر ويطمئن له الخاطر ويثلج له القلب به بلاطات ثلاث كل واحد يشتمل على أقواس وعرض كل قوس خمسة مترا و بصحنه الأول محاريب أربعة أو سطها منقوش داخله بالصدف والرخام والمرمر وجدران هذا الصحن في القبلة كلها مرخمة بالرخام والمرمر وجدران هذا الصحن في القبلة كلها مرخمة بالرخام الذي هو أشد بياضا من الثلج مع تحسينات تحار فيها الأبصار وكل ذلك يدل على عظمة ملوكها يرحمهم الله . وبداخله ضريح سيدنا يحيى عليه السلام قبة جميلة جدا وفي بلاطه ثلاثة وعشرون قوسا وعرض 9 م زرت سيدنا ومولانا الختم الأكبر والعلم الأشهر سيدي محيى الدين بن العربي صاحب "الفتوحات الملكية " له قبة مدهشة مهابة وعظمة ووقار وكتب عند جدار رأسه ( بسم الله الرحمن الرحيم ، ( ادع إلى سبيل ربك بالموعظة إلى ( المهتدين ) . هذا قبر العبد الفقير إلى الله عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن العربي الطائي الحلبي رضي الله عنه وأرضاه  ، توفي في سحر ليلة الجمعة ثاني وعشرين ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة وصلى الله على سيدنا محمد) .
        ومن جهة الجوف ضريحان لنجلي الشيخ رضي الله عنهم : سعد الدين نجل محيي الدين توفي 663 عماد الدين توفي 653 وبه ضريح الأمير عبد القادر الجزائري رحمه الله وبه مسجد للجمعة متوسط . كما زرنا أيضا يومه الشيخ عبد الغني النابلسي رضي الله عنه وبه مسجد الجمعة أيضا وهو بالصالحية أيضا .
        وفي يوم الثلاثاء المذكور زرنا على يد رجل صالح لقيناه يسمى الشيخ محمد الحمصي مسجد أهل الكهف على جبل قاسيون فدخلنا المسجد وتبركنا به والحمد لله وبداخله قبر سيدنا محمد بن الحنفية بن الإمام علي رضي الله عنه . وفيه زرت محمد الأيوبي بحارة الأكراد أحد قواد الجيش المستشهدين في حرب الصليب وحذاءه قبر أخيه صالح الأيوبي من المفتين .
        وفي يوم الأربعاء 28 زرنا قبر سيدتنا رقية بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وفي هذا اليوم حظينا بزيارة السلطان الأعظم صلاح الدين الأيوبي ووجدت فوق ضريحه لوح عليه صورة وكتب أسفلها : ( قف باحترام أمام مرقد بطل الإسلام العظيم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب شادي ولد رحمه الله في قلعة تكريت سنة 532 هـ استتب له الملك والسلطان على مصر والشام نحو العشرين سنة إلى أن توفي بدمشق سنة 589 هـ ودفن بالقلعة ثم نقل إلى هذه البقعة التي تفتخر بضم تخاليده رحمه الله وأجزل ثوابه ، وإلى جنبه ضريح وزيره عماد الدين ) ..
        واجتمعنا بمقدم زاويته الشيخ الصديق الجزائري في رياض الضريح المذكور .
        وفيه زرنا مدفن رأس سيدنا الحسين رضي الله عنه وهو بداخل مسجد الأمويين وعليه قبة يعلوها خشوع ورهبة .
        وفي يوم الأربعاء زرنا دار الحديث التي كان يدرس فيها النووي وابن الصلاح وحظينا فيها بزيارة الشيخ محمود بن رشيد العطار أكبر شيخ بالدار المذكورة وهو من تلامذة الشيخ بدر الدين المرحوم الذي درس في هذه الدار ما ينيف على خمسة وسبعين سنة وعمره 88 عاما وقد أجازني الشيخ محمود المذكور بإجازة بسنده إلى الشيخ المذكور بجميع العلوم العقلية والنقلية فالحمد لله على ذلك ، كما حظينا أيضا في هذه الدار المذكورة بوكيل الشيخ المرحوم ومعتمد العلماء الأحياء هنا الشيخ محمد يحيى المكتبي .
        وفي يوم الجمعة 30 منه خرجنا صباحا إلى النزهة وتمتيع الطرف بموضع يقال له ( دمر ) خارج البلد وبه من البساتين والمناظر الحسنة ما يستلفت الأنظار وتطيب بها القلوب والأبصار ، وفي وقت الجمعة رجعنا وأديناها بالمسجد الأموي وخطب خطبة موضوعا دعاء الأمة إلى العمل بالدين فأجاد وأحسن ثم بعد الفراغ حظينا بزيارة هذا الخطيب الجليل وهو الشيخ عبد الرحمن الخطيب من آل الخطيب عائلة كلها علماء وأجلاء حفظهم الله ، ومن ثم ذهبنا إلى ضيافة مولانا الشريف الجليل الفقيه السيد المكي الكتاني ففرح بنا وأكرمنا إكراما جميلا .
        وذهبنا إلى زيارة أهل التحقيق الفقيه العلامة رئيس المجلس العلمي التشريعي سيدي علي الدقر رضي الله عنه فاجتمعنا به ونلنا  فيه غابة البشاشة والبرور واستجزناه فأجازنا بجميع مستنداته ومقروآته ولا سيما من طريق الشيخ بدر الدين بن يوسف البياني المغربي رحمه الله ، ثم ذهبنا عند المغرب إلى ضريح الولي الصالح خاتمة الأولياء سيدي محيي الدين بن العربي وقامت هناك حلقة الذكر وكان يعلوها من الأنوار والمهابة ما تطمئن له النفوس والحمد لله .
 وفي يوم السبت وقفنا على معمل الملف وكنا رأينا من قبل معمل الزجاج وكيفية استخراجه ورأينا الرحا التي تدور بالماء ورأينا في اليوم المذكور باب شرقي وهو الباب الذي كان دخل منها سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وفي اليوم نفسه زرنا ضريح الولي الصالح أرسلان حامي الشام .
        وفي يوم الأحد 2 صفر زرنا مدرسة الهداية ابتدائية وعدد تلامذتها نحو الثمانين ومديرها محمد سعيد البخاري هاجر من بخارى هو وأخوه محمد علي وأبوه وبعدها خرجنا إلى المهاجرين وهي حارة مرتفعة عن الشام بها منظر يشرف على الشام وبساتينه وصرفنا هناك سويعات تمنعنا فيها بذلك المنظر الطبيعي الجميل وفي المساء خرجنا في صحبة سيدي المكي الكتاني إلى النزهة في بستان جميل إلى عربين وهو منظر جميل أيضا فالحمد لله على ذلك .
        وفي صباح يوم الاثنين 3 زرنا الفقيه العلامة المحدث المشارك سيدي أبي الخير الميداني بالمكتبة الأجرية مدفن صاحب " التصانيف الأجرية " المتوفى سنة 860 وأهداني مختصر "كتاب السعادة " لمؤلفه الحافظ الشهير السيد محمد أمين الخروطي ، وفيه زرنا المدرسة التجارية العلمية مديرها السيد محمود وشريكه الشريف الشيخ مراد وتلاميذته ثلاثمائة ثم دخلنا لزيارة الفقيه العلامة وأكبر الفهامة المشارك المطلع الشيخ سيدي هاشم الخطيب حفظه الله فألقيناه بحرا ضخما له إطلاع كبير في العلوم وأكرمني وأجازني .
        وبعده في اليوم المذكور خرجنا إلى النزهة في بستان به مناظر حسان مع جماعة ذوي إحسان واجتمعنا فيه بذي الفضل والكرامة وزرنا الفقيه العلامة الشيخ محمد الكافي التونسي وشيخ القراء محمد الحلواني ، وشيخ الطريقة السيد االهاشمي التلمساني وجماعة من الفضلاء النبلاء مادحي الرسول عليه من الله أزكى التحيات .   
        4 - في بلاد فلسطين
        وفي يوم الخميس 6 صفر 1357 خرجنا على الساعة الثامنة ونصف صباحا من دمشق إلى القدس على متن السيارة اكريناها بمبلغ 56 فرنك ومنه إلى بيروت 56 أيضا ، ومررنا في طريق القدس على جبل الشيخ وكله ثلوج مرت فيه السيارة نحو الساعتين ومنه إلى محطة القنيطرة وحولها من الحرث و الزرع ما يسر الخاطر ، ثم منه إلى محطة بنات يعقوب نقطة جمرك وحولها وادي الشريعة وبها زروع وهي حدود سوريا ثم جاعون قرية يهودية وحولها أيضا زروع وغرس كثير وعمائر وبها جمرك فلسطين ولا أنسى ما قاساه الركاب أصحاب الأغراض من شدة التفتيش ثم بعده محطة طبرية وقبلها بساتين فيحاء وعرصات أزهارها طافحة تطيبنا برائحتها حمدا لله وبها جبال كلها زرابي مبثوثة كأنها من جنة الخلد منقولة ثم لمجادلة وهي قرية صغيرة ذات بهجة ثم مدينة ناصرة وهي ذات منظر جميل وموقع بهيج وفيها انتقلنا إلى سيارة أخرى ثم إلى مدينة نابلس وهي مدينة عظيمة يكتنفها جبلان يسكنها العرب وعند الساعة السادسة مساء دخلنا القدس المعظم فقصدت المسجد الأقصى فقابلني شيخ المسجد الشيخ العابد والتقي الزاهد من لا يفتر عن ذكر الله تعالى السيد فائد الأنصاري وعنده نزلت وذلك والحمد لله من حسن ضيافة الله لي .
        وفي صباح يوم الجمعة أديت الفريضة في قبة الصخرة ودخلنا لزيارة المسجد والطواف بأمكنته الشريفة فبدأنا أولا بالدخول من الباب الشمالي ويقال له باب الجنة أمامه أسطوانتان وأمامه في أرضه السفلى مقام سيدنا سليمان الذي بقي فيه حين موته عليه السلام المشار له بقوله تعالى : { لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } وهناك قبة ضخمة مبنية على الصخرة المعلقة التي عرج منها النبي rوالذي بناها هو عبد الملك بن مروان سنة 72 من الهجرة ويحيط بالصخرة ( دربوز ) كبير وبداخله محاريب لسيدنا سليمان وآخر يقال إن النبي r صلى فيه وهو قبلته الأولى وآخر لسيدنا إدريس عليه السلام ، والصخرة المذكورة وفوقها من جهة أطرافها أقدام مرسومة يقال إنها أقدام النبي r وفيها آثار أصابع يقال إنها لجبريل أمسكها ليلة الإسراء لخوف سقوطها ويقولون إن هذه الصخرة معلقة ويوجد في أسفلها جدار يحيط بها بناه العربي الحاتمي رضي الله عنه وتحت الصخرة ينزل له بدرج وإذا استقبلت يكون عن يمينك محراب ينسب لداود عليه السلام وطاف ينسب لإبراهيم وعن اليسار محراب ينسب لسليمان و مقام في الداخل ينسب للخضر عليه السلام وفي وسط الصخرة فوهة كبيرة يقال إنها محل المعراج ، وفي داخل الدربوز المذكور حول الصخرة المذكورة محل يقال إن فيه شعرتين للنبي r ومحل أسفله يقال فيه قدم النبي r ولقبه المذكورة أبواب أربعة وللحرم كله أبواب 10 وله أربع منارات وهناك قبة المعراج وقبة محراب النبي عليه السلام صليت قيها والحمد لله ومن حسن السعد أن التقينا بالرحالة فدلنا على المحل الذي ألف فيه الغزالي " الأحياء " . ثم زرنا بعد أداء الجمعة بالأقصى جدار المبكى الذي يحج إليه اليهود حيث رباط أبي مدين دفين تلمسان ثم زرنا كنيسة يسمونها القيامة بداخلها قبر يزعمون أنع لعيسى وصورة إزاءه من الوجهة الأخرى لمريم عليها السلام.
        ودخلنا للمسجد الأقصى وشاهدنا به محرابا عظيما بناه صلاح الدين الأيوبي ومنبره أهداه بعض الأجلة للسلطان المذكور ويقال إن عمر صلى به ، وشاهدت خارج المسجد مدارس وشوارع قديمة من أثر صلاح الدين الأيوبي زفيه مكتبة يوجد بها من الكتب ( 5000) توجد مدرسة أصلية واحدة يقال لها روضة المعارف وفي المساجد مدرسون منهم محمد سعود العوري ، الشيخ موسى أفندي البودري ، فضيلة الشيخ أفندي الخالدي نسبة إلى سيدنا خالد بن الوليد وهو من أكبر المؤرخين ومنهم فضيلة المفتي الأكبر والشيخ الأشهر محمد أمين الحسيني انتقل إلى بيروت وفي معيته الشيخان فضيلة الشيخ حسن أبو سعود وفضيلة الشيخ موسى لأفندي العذراوي . والسيد فائق الأنصاري أكبر شاعر ومن فطاحل شعراء فلسطين إسعاف بك النشاشيري .
        سكان فلسطين مليون وربع اليهود أربعمائة المسيحيون مائة ألف . قلعة داود وسليمان أساسها في الأرض 10 أمتار . بين البلد والخليل 36 كيلو . في جبل الطور شاهدنا المقام الذي رفع الله منه عيسى عليه السلام وعليه قبة صغيرة وبقربه قبة بأسفل ينزل بها بالدرج بها قبور ثلاثة : محمد العلمي ، سليمان الفارسي ربيعة البصرية العدوية . كلية اليهود كبيرة ومستشفيات لهم .
        جبال التيه تبتدئ من الطور وتنتهي إلى مدين به مقبرة لشهداء الحرب ، أبعدت الحكومة من المسليمن 5000 إلى قرب حيفا . جنود الإنكليزيين 50000 . مدينة بيت لحم أكثر سكانها من العرب المسيحيين وقليل من المسلمين وشاهدنا فيها أعظم كنيسة في العالم فيها محل ولادة عيسى والنخلة والمهد ، والكنيسة المذكورة يقال لها كنيسة المهد .
        مدينة إبراهيم الخليل بها وبقراها سبعون ألفا من المسلمين لا يوجد بها يهود ولا مسيحيون لا زالت على عهدها القديم منذ زمان سيدنا إبراهيم ، مسجد الخليل بناه سليمان عليه السلام وبيسار بابها الغربي جدار ويجح إليه اليهود وبه غار قبر الخليل ويقابله قبر سارة ولكل منهما قبة عند باب المسجد ، ثم قبة قبر إسحاق وإزاءه قبر زوجه وزوج سيدتنا رفقة أم يعقوب وإزاءه زوجه السيدة لائقة وزوجه رحيل عند طريق بيت لحم وفي الغرب في مؤخر المسجد قببر يوسف عليه السلام وكل القبور دفنت بداخل غار تحت المسجد وقد شاهدنا باب المغارة طولها 55 م وعرضها 33 م .
        منبر المسجد كان في مدينة عسقلان بغزة من أعمال فلسطين في مشهد الحسيني ثم نقله صلاح الدين الأيوبي إلى مسجد الخليل سنة 584 هـ وعشية الجمعة زرت المكتبة مديرها محمد أمين الأنصاري رضي الله عنه عدد الكتب ينيف على سبعة آلاف وأقدام كتاب عندهم " ملخص الموطأ " للقابسي من سنة 418 هـ.
        تأسيس المكتبة سنة 1318 هـ.
        وفي يوم الجمعة 7 صفر كانت المناداة على موسم سيدنا موسى عليه السلام اجتمع الجمهور بعد صلاة الجمعة في قاعة من ساحة المسجد وحضر الحاكم الأجنبي وجماعة من العسكريين مع الموسيقى ووقعت المناداة على الموسم المذكور ، ولهذا الموسم سبب وهو أن النصارى يحجون في يوم معين من السنة إلى الكنيسة الكبيرة هناك ويجتمع منهم ما يزيد على ثلاثين ألفا ففكر في ذلك صلاح الدين الأيوبي وقال من الجائز أن يقضوا على المسلمين بالذبيحة والقتل في هذا اليوم ولا قوة للمسلمين ورأى أن يتخذ المسلمون موسما في مثل يوم موسمهم فأمرهم باتخاذ الموسم المذكور في يوم حج النصارى وبقي من ذلك الوقت إلى يومنا هذا . وفي ويوم السبت 8 منه ذهبت صباحا إلى زيارة سيدنا داود عليه السلام تقبل الله منا ذلك . وعلى الساعة الثامنة صباحا منه سافرنا إلى بيروت وعلى الساعة 12 وصلنا إلى حيفا وأديت الفريضة في مسجد الاستقلال هناك فيه منظر جميل ثم عكا صيدا .
        5 - في بلاد لبنان
        وفي يوم الأحد 9 صفر دخلنا إلى بيروت ونزلت عند الحاج إبراهيم الكنوني وفي يوم الاثنين زرنا كلية الشريعة الإسلامية والتقينا فيها بالأستاذ علي طنطاوي وسمعناه يقرأ في موضوع المكاتب المصرية ويشرح عدد ما وجد فيها من الكتب العلمية وهو مبحث لطيف ثم زرنا الفقيه العلامة الشيخ محمد العربي الزرهوني العزوزي المغربي ودعانا للفطور عنده            
    
        مدارس بيروت - كلياتها . المقاصد الخيرية الإسلامية للبنين وبها تسعمائة تلميذ تحضيري وابتدائي وثانوي بدرس فيها القرآن والعلوم العربية بجميع فروعها والعلوم الدينية الأكحامية واللغة الإفرنسية بجميع فروعها يرأسها الوجيه عمر بك الداعوق رئيس غرفة التجارة وعميدها .
        ثم كلية البنات التابعة للجمعية المذكورة وبها ألف ومائة تلميذة يدرس بها العلوم المشار إليها وترتيب المنازل والإقامة بشؤونها والأعمال اليدوية .
        ورواتب المدرسين في هاته المدرستين ستمائة فرنك سنويا . وللجمعية المذكورة أربع مدارس للبنين في مدينة بيروت وفي كل منها 700 مجانا ولهم أربع مدارس للبنات مجانا أيضا : خديجة الكبرى ، فاطمة الزهراء ، عائشة أم كلثوم . ولها مدارس في الجبال اللبنانية عددها 56 كلها على نفقة الجمعية وجميع ما تنفق هذه الجمعية سنويا خمسون ألف ليرة ذهبية تساهم فيها الأمة الإسلامية البيروتية كما لها أوقاف تستثمرها لأجل القيام بما ذكر .
        وللمسلمين مدارس أخرى أهلية تبلغ نحو العشرة أكبرها الكلية العباسية الإسلامية تدرس بها العلوم العصرية وقد تخرج منها عدد كبير من رجال البلاد وغيرهم ومديرها ساعته كمال عباس بن مؤسسها الشيخ عباس الأزهري .
        وفي كلية عظمى حكومية للطلب بأنواعه وفيها أيضا الجامعة الأمريكية الكبرى يتخرج منها الأطباء والمهندسون والصيادلة والمحامون والمدرسون ولها بنايات عديدة في غاية الإتقان والتنميق وعدد تلاميذها ألف وخمسمائة وبداخلها مستشفى عظيم يتداوى فيه الفقراء مجانا .
        وهذه المدرسة لها اعتناء خاص باللغة العربية وهي تستمد من محسني الأمريكيين وقد تخرج منها كبراء وأجلاء وبها متحف شاهدنا فيه عجائب وغرائب من الآثار القديمة معدنية وغيرها ومنها ما له ألفا سنة قبل المسيح وفيه غرف جامعة لأنواع الحيوانات محفوظة في جلودها .
        ومنها كلية الآباء السيوعيين مسيحية تدرس فيها العلوم العليا من الطب والهندسة وحقوق لها مطبعة عربية .
        ويبلغ عدد الكليات نحو العشرين والجامعات نحو الأربعة وعدد مدارسها نحو المائتين وعدد الأمة اللبنانية المذكورة مليون إلا ربع والمسيحيون أكثر إقبالا على العلم ماديا وأدبيا وذلك عائد إلى الامتيازات التركية القديمة .
        العلماء المشتهرون :
        مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد توفيق خالد قاضي القضاة العلامة الأديب الشاعر المربي الشيخ مصطفى العلايلي صاحب المؤلفات العديدة . الشيخ أحمد المحمصاني بقية السلف . الشيخ محمد البربير . الشيخ عبد الباسط الأنسب .
        ومن الشبيبة الناهضة الأستاذ عبد الله العلايلي ، أعظم كاتب في بيروت عمر أبو النصر صاحب مجلة " الحرب العظمى " إلياس حرفوش صاحب " صحافة الحديث " . صاحب جريدة " النهار " حبران أتويني .
        من كبر الكتاب محيي الدين النصولي صاحب جريدة " بيروت " .
        في الساعة 11 وربع من نهار يوم الخميس 13 صفر الخير ركبنا الباخرة ( مريت باشا ) قاصدين مارسيليا فوصلنا إلى حيفا على الساعة الرابعة ونصف وأقمنا نحو الساعتين ووقفنا في الإسكندرية نحو العشرين ساعة ووصلنا مرسيليا يوم الأربعاء 19 في الساعة 12 ) .

هناك تعليق واحد: