رحلة الحاج إسماعيل فرج.
رحلة ظاهرة الحاج إسماعيل فرج.
عبد الهادي التازي
العدد 318 ذو القعدة 1416/ أبريل 1996
كأحد المعجبين بمن يمر من حولي من شخصيات
مغربية فذة، أشعر بواجب علي أن أقف قليلا مع صديق لي تعرفت عليه وأنا أتردد –
بالرباط – على بيت أعمامي الذين لا يبعدون عن أسرته سكنا وعلاقة ومزاجا...
وكان مما يلفت نظري إليه ما كان يحكيه
شيخي وأستاذي سيدي المدني ابن الحسني عن والده الحاج عبد الخالق فرج، الذي كان
معروفا في الرباط على النحو ما هي معروفة منارة حسان...
كان الحاج إسماعيل إذا حضر مجلسا التف
الناس حوله، ليسمعوا عن رحلاته، عن تجاربه، عن نوادره، عن هواياته، وعن مغامراته...
لقد كان الحاج إسماعيل من الرعيل الوطني
الأول الذي اقتحم المدرسة الفرنسية العصرية بالرباط، التي كانت تحمل في الرباط اسم
«المدرسة الثانوية الإسلامية»، حيث وقفت عنده على ما يمكن أن نسميه «شهادة مدرسية»
تحمل تاريخ يونيه 1916، وقد عنونت هذا الشهادة بكلمة (ترتيب التلامذة)، ولو أنها
تخص فقط التلميذ فرج وهي تقول:«إن مدير المدرسة يخبركم بأن نجلكم التلميذ «سي
إسماعيل فرج» قد رتب في المرتبة السادسة من قسمه، الذي فيه 15 من التلامذة، وهاهنا
بيان النقط المحصل عليها في كل من الفنون، التي تدرس خلال الشهر المذكور، والتنقيط
من الصفر إلى عشرين.
السيرة والاجتهاد 16 التاريخ
16
ملازمة الحضور 20 الترجمة الفرنسيون العربية 10
التمرينات بالافرنسوية 18 الإنشاء
العربي 19
التمرينات بالعربية 18 الإنشاء
الافرنسوي 12
القراءة باللغة العربية
الفصيحة وتفسيرها 17 الإملاء
بالعربية 19
التكلم بالافرنسوية 12 الإملاء بالافرنسوية 11
سرد المحفوظات بالفرنسوية11 النحو
والصرف 18
التوحيد 15 المنطق
17
لقد فضلت أن آتي بهذه الشهادة من
الأرشيف: أولا لأعرف بالحاج إسماعيل، الذي أثبت وجوده منذ ذلك التاريخ المبكر ولما
يمض على وفاة والده عبد الخالق أكثر من سنين.. وثانية، لأقدم صورة ناطقة عن مواد
المدرسة الأولية كما عرفت في أوائل أيام الحماية الفرنسية..
ولم يكن غريبا علينا أن نجد الشاب
«إسماعيل» يلتحق منذ الوقت المبكر بأطر المحافظة العقارية التي كانت حديثة النشء
بالمغرب، ومن ثمة وجدناه موظفا يعرف أوقات العمل كما يعرف أوقات الإجازة السنوية...
ولابد لك من جولة – ولو خاطفة – في
الجوازات التي كان يحملها الحاج إسماعيل على مر الأعوام.. لأنها – وحدها –
بتاريخها وبما تحمله من عبارات، تعطيك فكرة عن التصرفات الاستعمارية بالمغرب، وكيف
تطورت معاملة الإدارة الفرنسية للمملكة المغربية..
ففي عام 1928 كان «الباصبور» الذي توفر
عليه الحاج إسماعيل يحمل عبارة: «الإمبراطورية الشريفة» التي توجد في أعلى الصفحة
الأولى، وتحت هذا السطر توجد عبارة: «الحماية الفرنسية».
أما عام 1936، سنة قيام المظاهرات
الصاخبة في المغرب بسبب اعتقال الزعماء الثلاثة: علال الفاسي، وابن الحسن الوزاني،
ومحمد اليزيدي.. فقد تحول الأمر إلى هذا الترتيب: في أول السطر:«حماية الجمهورية
الفرنسية بالمغرب»، وتحت هذا السطر لم تبق عبارة « الإمبراطورية الشريفة» وإنما:
«الحكومة الشريفة».
وهكذا كان عام 1939 فما بعد، حيث أخذ
الطابع الفرنسي يغلب على الوجود المغربي !!
إن ما حققه الرجل جعله يفتح عينيه على
عدد من التجارب، وجعل منه رجلا يعيش عصره، بل إنه يسبق عصره في بعض الأحيان..!
فقد عرف كيف ينظم في وظيفته بالمحافظة
إجازته للقيام بالتجوال عبر أطراف الدنيا، وقد دشن رحلاته كمواطن مغربي مسلم
بالذهاب عام 1928 إلى البقاع المقدسة، فحج مكة، وزار المدينة، وقد اغتنم هذه
الفرصة ليقوم بزيارة مصر والشام ولبنان وفرنسا كذلك...
ولم يلبث أن أـبع هذه الرحلة بأخرى عام
1932، وقد أضاف إلى البلدان السابقة فلسطين، وتركيا، ونابولي، وبنزرت.
وقد عاد إلى الرحلة عام 1936 – ودائما
الهدف الأول مكة – لكنه زار – علاوة على ذلك – بلاد الشام ولبنان وفلسطين، والعراق
والهند: كراتشي، بومباي، حيدر أباد الدكن، أورنكاد بهوبال، أكرا، دلهي، لاكناو
بنارس، كلكتا، ثم عدن، وإيطاليا، وفرنسا.
وبهذه المناسبة اجتمع في دمشق ببعض
طلبتنا من أمثال سعيد حجي وأخيه...
وقد كان مما أثار «انتباه الحاج إسماعيل»
وهو يزور مصر في شهر يونيه 1936 قصاصة احتفظ بها لإحدى المجلات المصرية، وهي تتحدث
عن اهتمام الرأي العام في الهند وغيرها من البلدان الشرقية والغربية بحادث إسلام
«المسترهيرالال»، أكبر أبناء الزعيم الهندي الأشهر «المهاتما غاندي» في حفلة جامعة
بالمسجد الكبير في بومباي في 29 مايه 1936، وسمى نفسه «عبد الله هيرلال غاندي»،
وقد أعلن رسميا خروجه عن حظيرة الديانة الهندوسية..
عندما بلغ الخبر والده... علق قائلا:«هو
حر في اختيار الدين الذي يريد إتباعه..»
ومن الطريف أ، نقف على(صورة وخبر) في
مجلة (اللطائف المصورة) القاهرية في عددها الصادر يوم 27 يونيه 1936... وكان الأمر
يتعلق بالسائح المغربي المعروف «الحاج إسماعيل فرج» من الرباط، وقد نشرتها المجلة
المصرية بمناسبة زيارة «الحاج إسماعيل» لأهم مدن الهند... حيث تاه هناك، إلى أن
عثر عليه جماعة من أصدقائه حيا، فغادر الهند على الفور، عائدا إلى بلاده...
!
فعلا، لقد أصبح السفر نشوته المحبب،
واعتاد أصدقاؤه منه ذلك، فكانوا يتنافسون على التقاط الأخبار الطريفة منه، بل كان
دليلهم عندما يزمعون على الرحيل إلى الجهات التي سبق له أن زارها... يرشدهم
للمزارات التي عليهم أن يقفوا عليها... وللأماكن التي عليهم أن يقصدوها دون غيرها
!!
وقد حكى لي قصة غريبة حدثت له وهو يقوم
عام 1952 بزيارة له إلى أروبا: اسبانيا، وفرنسا، وانجلترا... هنا في لندن استعصى
عليه عندما وصل للعاصمة البريطانيا أول مرة أن يجد غرفة له في فندق ما.. وخشي على
نفسه، فلم يتردد في أن يتقدم إلى «كوميسارية» في قلب العاصمة ليطلب مساعدتها في
قضاء ليلته آمنا، فاقترحوا عليه أن يقضي ليلته داخل غرفة.. ولما لم يكن أمامه غير
هذا الحل فقد رحب بهذه «الضيافة» !!
وقد كان من أبرز رحلاته بعد استرجاع
استقلال المغرب قيامه بمناسبة العمرة، لكنه اغتنم هذه الفرصة عام 1960 ليزور
القاهرة، وهناك وجد نفسه مع احتفالات مصر بالزيارة التاريخية التي قام بها جلالة
المغفور له محمد الخامس، حيث وجدنا «الحاج إسماعيل فرج» يحرص – وهو الوطني المغربي
الغيور – على حضور الحفلة الكبرى التي أقامها جلالة الملك بالسفارة المغربية
بالزمالك تكريما للرئيس جمال عبد الناصر يوم الأربعاء 13 يناير 1960، الذي كان
يوافق منتصف رجب 1377.
وقد ألح الحاج إسماعيل« على أن يحتفظ
لنفسه ببعض الصور التي حصل عليها من دار الصحافة المصورة، التي كانت تقع في شارع
الجلاء بالقاهرة، حيث وجدناه إلى جانب بعض المسؤولين والطلبة المغاربة الذين حضروا
ذلك الاحتفال.
وإن من أكثر الرحلات إثارة، رحلة عام
1964، والتي لا تتيسر إلا لعدد قليل من الناس.. ويتعلق الأمر بعبوره ما يعرف «بخط
التاريخ الدولي»، وهو الخط المقابل لخط كرينتش.
لقد كان أول مغرب – على ما في علمنا –
زار اليابان، وهكذا قصد طوكيو بمناسبة الألعاب الأولمبية عن طريق القطب الشمالي:
(ألاسكا)، وعاد من طريق هونج كونج، وبانكوك...
وإذا كنا نحن: الأستاذ المستشار أحمد بن
سودة وأنا قد تكاسلنا عن متابعة شركة الطيران لتسليمنا شهادة على أننا قطعنا «خط
التاريخ الدولي» في يوليه 1980، فإن «الحاج إسماعيل» تفوق علينا بحصوله على
الشهادة من شركة «إير فرانس»، وكانت تحمل تاريخ الاثنين 28 شتنبر 1964.
«الحاج إسماعيل» لم يقتصر على
آسيا وأروبا وإفريقيا السوداء، ولكنه زار أمريكا الشمالية؟، بما فيها الولايات
المتحدة وكاندا..
وهكذا كان«الحاج إسماعيل» ثاني مغربي
يزور الولايات التحدة الأمريكية بعد العم«الحاج عبد القادر التازي»«، وإن الطريف
في تحركاته أنها كلها مسجلة عنده.
ولقد طلبت إلي وزارة الداخلية ذات يوم من
أوائل شهر يونيه 1982 أن أقوم بإلقاء بعض المحاضرات على الفوج الأول من
«المحتسبين» المغاربة الجدد... ولما كنت أعرف – كما أشرت في بداية الحديث – عن
والده عبد الخالق، الذي كان يحمل في الشفرة المغربية السرية رقم(75)، فقد رجوت أن
أحصل منه على معلومات عن أساطير ذلك المحتسب النموذجي، وخاصة ما يتعلق بأمانته،
ونزاهته، وإخلاصه، وثباته على مبدئه، في المحافظة على مفاتيح رصيد الدولة..
ولشد ما كانت دهشتي وقد طلع علي «الحاج
إسماعيل» بشجرة نسب الحاج عبد الخالق، وضعها هو، وكانت تشتمل:
أولا: على عدد أزواجه..
ثانيا: على أولاده الذكور والإناث وما
تناسل منهم من حفدة وأسباط إلى متم عام 1956. وضعها ورسمها بطريقة دقيقة، بخطها
الجميل المتأني... ولا يمكن أن تكون إلا من وضع رجل متقد الفكر، عالم بميزان
الأمور.. وقد سلمها إلي – رحمه الله – لأستفيد منها.
ولم يكتف – فقط – بالتتبع المستوعب لكل
المتعلقات، ولكنه أعقب هذه الوثيقة – والكل بخط ذات يده – بذكر الأسر التي أصبحت
بحكم المصاهرات ترتبط بأسرة فرج.. ! لقد بلغ عدد هذه العائلات خمسة وأربعين عائلة
!! كانت وثيقة تستحق أن تكون موضوع «رسالة جامعية» لأنها تعني تاريخ الرباط كله..»
وهو يعيش فريدا، كان يعيش مع متاحفه، ولا
أقول مع متحفه.. فهو يتوفر على مجموعة نادرة من الطوابع البريدية التي لا يتوفر
عليها غيره.. وهي ليست خاصة بالمغرب فحسب، ولكنها تتجاوزه إلى خارج المغرب، فهناك
طوابه مغربية رسم عليها رسم لملك بريطانيا !.. علاوة على طوابع لباب شالة، وصومعة
الكتبية، وباب منصور العلج، وهناك وطوابع للمدينة المنورة، ومكة المكرمة، وكراتشي،
وبومباي، وكلكتا، وعدن، ومرسيليا، والناصرية، «فلسطين» ودمشق... و... وجنوة ونيس..
وينبغي لك أن تزور متحف «الحاج إسماعيل»،
الجناح الخاص بالنقود، فإنك ستقف على طائفة هامة من النقود... والطريف في هذا
العرض أن «الحاج إسماعيل يعلق على كل قطعة من تلك القطع بما كتب على وجهها الأول
والثاني، وكذلك يهتم بنقل التاريخ ونوع الخط.. وهل هو كوفي أو مجوهر؟. ويذكر قيمة
العملة، وهل هي دينار ذهبي أو درهم فضي؟..
وقد كنت ألقي عليه السؤال حول السبب الذي
جعله يعرض عن الزواج.. !! وكان يحاول مرارا أن يتهرب من الجواب، لكنه ذات يوم تحدث
إلي حديث الفيلسوف !!
ولقد ذكرني جوابه فيما كنت أعرفه عن
السيد «القندوسي» الذي تعرفت عليه بواسطة الأستاذ الحسين ابن بشير...
كان«القندوسي» على النحو«الحاج إسماعيل»،
نظيف الثوب دائما... عزوفا عن كل جهد قد يفرز منه عرقا أو ما يشبه ! وكان يستغرب
هو من الذين يقدمون على الزواج، ويعرضون أنفسهم وغيرهم لما كان يعتبره القندسي
«إزعاجا» !!
وإن الذين عرفوا «الحاج إسماعيل» عرفوا
فيه الإنسان النظيف، بل البالغ في النظافة، لدرجة أنه أحيانا يعيد غسل الثياب التي
سبق أن غسلت له من لدن الغير !! ومن ثم نعرف عن«فلسفته» في الإعراض عن الزواج
!!
لقد كان «الحاج إسماعيل» دقيقا جدا في
تعامله، متعففا إلى أقصى درجات التعفف في مخالطته للناس حتى لا تشعر أمامه بأية
مضايقة، وكان حريصا على أن يهاديك.. ولا يترك الفرصة تمر دون أن يعبر لك عما تستشف
منه أنه إنسان، وأنه متحضر، وأنه يغادر على اسمه أن يذكر بسوء.
أهديته ذات يوم مؤلفا لي عن «القنص
بالصقر» بعد أن أخبرني هو أنه قرأ عنه في الصحف المغربية، وأن له ما يضيفه لي حول
هذا الموضوع..
ولقد تفضل بهذه المناسبة فأهداني قطعة
ثقيلة الوزن من الصندل قال لي:«إنه أتى بها من الهند ليثقل بها أوراقه في الوقت
الذي يستمتع فيه برائحتها الزكية، وقد كتب اسمه عليها بخطة الأنيق الرفيع..»
ومن واجبه علي في الأخير أن أذكر أنه كان
رجل ثقة عند رجال الحركة الوطنية، يعتبرونه من المخلصين للقضية المغربية، ومن ثمة
كان يقوم بدور رجل البريد في رحلاته، على ما حكاه هو، وتأكد لدي من خلال ما سمعته
من بعض الوطنيين المخلصين، الذين حضروا تكليفه من الأستاذ الحاج أحمد بلافريج
بإبلاغ بعض الرسائل إلى عدد من الجهات، فكان يؤدي المهمة بكل أمانة...
وإذا ما أضفنا إلى إخلاصه لبلاده تفانيه
فير ربه الذي تجلى في إنشائه للمسجد الذي يحمل اسمه بأهم شارع في شوارع
المدينة..«شارع تمارة» عرفنا إذن مركز «الحاج إسماعيل»، فلقد أصر رغم إلحاح قريبه
الأستاذ عبد الرحيم بنعبد الله على أن يعطي الأسبقية لبيت الله قبل أي مشروع آخر،
ولو كان مدرسة ! أليس أنه ظاهرة؟
وبعد، فهل لا يعتبر من الفضول أن نقترح
إهداء تحفه من قبل ورثته إلى رواق يخصص لها في مؤسسة عمومية بالرباط ليستفيد منها
المواطنون ممن يهتمون بتراث بلادهم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق