رحلات البحث
عن الحاج سليمان الغزواني
في الأيام القليلة القادمة سيصدر لشعيب
حليفي كتاب أدبي جديد بعنوان :"كتاب الأيام : أسفار لا تخشى الخيال" عن منشورات
القلم المغربي .وهو عبارة عن ثمانية نصوص رحلية قام بها الكاتب الى طرابلس والقاهرة
وسوريا والسعودية وقطر وتونس وكتبها بوجدانه وورؤيته السردية التي كتب بها آخر نصوصه
الإبداعية "لا أحد يقفز فوق ظله"
.
وفي ما يلي النص السابع " رحلات البحث
عن الحاج سليمان الغزواني
"
رحلات البحث
عن الحاج سليمان الغزواني
كلما تأهبتُ للسفر، خارج الأمكنة التي ترعرعتُ
فيها، راودني الشعور باتخاذ قرارات لا رجعة فيها، ومنها الإمساك عن السفر والاكتفاء
بالدائرة السحرية، المحدودة في جغرافيا الشاوية؛ الدار البيضاء،سطات، وقبائلي التي
أزورها مُتفقدّا المستقبل المحجوز في عيون الفلاحين، ودهشة التراب في تمدده الفسيح
، المُشبع بالفراغ والذكريات المكرورة ، يشهدُ عليه النبات والطير والبهيمة وعيون الشمس
والقمر وغيم المطر، أمّا أنا فأشهدُ على عجزي في تبني هذا القرار.
يأتي تأهبي للسفر في صورة غيوم "على
وشك"، أحسها معتقلة بداخلي ولابد لي من البحث لها عن مجرى آخر.
في الأسبوع الذي سأسافر فيه، نهاية شهر
أكتوبر، تكاثف انشغالي بعدد من القضايا العامة والخاصة ،ومنها الترتيب لكل وثائقي،
خصوصا وأنا أتهيأ لأسفار عِلمية مهمة وثيقة الصلة بالتخصصات التي اشتغل فيها؛ كما أن
المشاركين هم نخبة من النقاد والأدباء العرب، فضلا عن كون الجهات الداعية هي مؤسسات
ثقافية محترمة وذات خبرة.
إنها رحلة من ثلاثة مسارات ، تبتدئ يوم
الرابع والعشرين من أكتوبر، إلى بلاد الجزيرة العربية، والتي قضيتُ بها سبعة أيام،
زرت خلالها جدة والباحة والأحساء ومكة. ثم عدتُ إلى المغرب لأرحل ثانية إلى القاهرة
يوم التاسع والعشرين من شهر نونبر، لقضاء خمسة أيام. ومن هناك انتقلت إلى الدوحة بقطر
يوم خامس دسمبر قبل أن أرجع إلى الدارالبيضاء يوم حادي عشر دسمبر 2010.
• أنا ابن السماء !
يوم الأحد، في الساعة الرابعة زوالا، كنتُ
بمطار محمد الخامس، أجري ترتيبات السفر. وبعد ساعتين ونصف ، لحظة أناخت الطلائع الرمادية
الأولى لظلام بارد، ركبتُ طائرة البوينغ منتظرا إقلاعها كي أسحب من محفظتي ديوانا شعريا
صغيرا بالفرنسية للشاعرة الخالدة كاسبارا ستامبا(1) ، وعلى مدار ساعة ونصف الساعة وأنا
أنتخبُ قصائد أقرأها من هنا وهناك، وفي خيالي سيرتها الساخنة، ذات الثلاثين ربيعا ،
فقد عاشت كاسبارا ستامبا كل لحظاتها على إيقاع الشعر والألم والانتظار..ورغم ذلك، استطاعت
،ببلاغة ناعمة، رصد حالتها الوجدانية في ثلاثمائة وإحدى عشرة سونيتة، كتبتها ما بين
ألف وخمسمائة وأربعين وألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين ، حكت خلالها يوميات حب حارق بدواخلها
الهشة بعدما حولته إلى مرايا عشق ساخن ..فكانت مثل فراشة تصنع من النار قوسها الأخير .
وقبل أن أستسلم للنوم، أوصيتُ جاري الذي
لم أتبين جنسيته، أو أني لم أهتم لها، بأنيَ غير راغب في وجبة العشاء.
لم أستفق إلا والطائرة قد شرعت، في النصف
ساعة الأخيرة من الرحلة، تتهيأ للهبوط ،فخطر لي خاطر أوجسَ لمسامع الروح المعلقة بألاّ
تهبط مع الهابطين ، ولكن ربي خصَّني بوسيلة أرقى، فقد أسرى بي، أنا العبد الفقير إليه
، من مغرب شروق الليل إلى مشرق الفجر الباهي.
من السماء إلى الأرض، أحسستُ أنيَ نمتُ
ما يوازي عمري كاملا. وحينما فتحتُ عيني تأكدتُ أنيَ شخص آخر، تركَ وراءه نفسه الفانية،
المخدوشة بندوب فوق ندوب فوق ندوب لا محدودة، نفسه المتشبثة بالدنيا ومتاعها ،بوهم
الأوهام والخطايا. كأنني عشتُ من قبل هذه الحياة، أو سأعيش في حياة أخرى تتفجر ينبوعا
صافيا زلالا. وفي الدنيا، يُحيينا الله لنُجرّب فقط ، كل ندبة منا ستروي أسرارنا.
وأنا في السماء، بكل هذا الشعور الذي تلمَّسْتُ
نُتوءاته الحادة بصفاء نادر، غالبتُ سكرة الهبوط إلى الدنيا، كأني صرتُ طامعا في حياة
ثانية ؛ سماوية، بعيدا عن أرض الآثام التي طلعت منها. تردَّدْتُ قبل أن أفتح عيني مُلتفتا
إلى الكوة التي رفعتُ عنها الغطاء فسطعَ نور لفحني وأبهج خيالي، مُتقدما برأسي وروحي
قليلا دون أن أرمش، مقتربا من الكوة/ النافذة التي صارت مِرآة أعاجيب أو شاشة مستطيلة
أوكتابا، تُقلبُ صفحاته نفسي، فأرى صورا مترابطة... شعيب: إنّا نراكَ في بطن أمكَ وهي
جالسة بفناء الدار ذات الزليج الناصع الألوان، في ظهيرة يوم غائم ،تستكمل في استعجال،
نسج بطانية بألوان زرقاء وحمراء وبيضاء، ومن حين لآخر تستل خيطا أخضر اللون من كبة
خلف صينية، عليها براد شاي وكأسان.
إنه الأسبوع الذي سأولد فيه .قلبتُ الصفحات
والصور بسرعة، فرأيتُني طفلا يُحبُّ الحقول والحيوانات، و"يموتُ" في صيد
العصافير وركوب الفرس. عيناهُ يلمع منهما الشر البريء، كما البراءة الشريرة...
حياة طويلة. أسرعُ في تقليب زمنها المتداخل
مع أزمنة كثيرة، ولن تجدَ- أنتَ- الوقت لتدوين تفاصيلها الرمزية، وإنما كنتَ تلتقط،
من حين لآخر، ما ينهض في ذاكرتك، حيا مشرئبا للذي يتحول من ذكرى في مهبّ الريح إلى
خيال دافق.
***
في النصف ساعة الأخيرة على الهبوط بمطار
جدة ،وبعدما انفتحت أمامي شاشة حياتي أسرعت إلى قلم مداد صغير ومذكرة في حجم الكف،
مُدَوّنا الخطرات البرقية السريعة التالية:
- لا تُصدّق كل ما ترى ، وثقْ فقط بخيالك .
- لا تَكره أبدا أعداءك.
- أعداؤك هم من يعرفونكَ ولاتبغ الوصول إلى معرفتهم.
- اجعلْ من تفكيرك نهرا يجري، وكلما حفر عميقا في مجراه الطويل والصعب،
أصبح ماؤه، على السطح، عذبا وصافيا.
- لا تكن واضحا، واختر الدقة فقط.
- إنَّ أسوأ الدروس هي التي تُبررُ كل شيء.
- أفدحُ الأخطاء ، تكرار الخطأ الأول.
- قد تستعيدُ كل شيء ضاع منك ،ولكنك لن تستعيد نفسك إذا ما ضاعتْ .
- حياتنا مسارات ومراحل، تتغير فيها الأدوات والأمزجة باستمرار.
- قطاران : واحد متوقف والثاني يجري في الاتجاه المعاكس.في أي منهما تكون،
هل ستشعر بنفس الشعور؟.
***
لم يكن في نيتي كتابة نص ثان عن رحلتي إلى
بلاد الله وأرض جدنا النبي العزيز، لأني اعتبرتُ نصي الأول " رحلتي المقدسة"
كافيا،لا كلام لي بعده. لكن، ما أن حطت بي الطائرة في مطار جدة، فجر يوم الاثنين خامس
وعشرين أكتوبر، ألفان وعشرة ، في الساعة الثالثة والربع بالتوقيت المحلي ، حتى صرت
مثل ذرة لا تُرى إلا بالمجهر في سماء شرّعت كل أبوابها لأفواج ملايين الحجاج ممن أتيحَ
لهم المجيء إلى نفس المكان منذ آلاف السنوات. وقد صادفتْ رحلتي هذه، موسم الحج في عامه
الألف والأربعمائة وواحد وثلاثين للهجرة،شعرت وأنا أهبط الأرض المُباركة، كأني نورٌ
منفلتٌ من السماء، انشقَّ قلبي وصار صفحة بيضاء تكتبُ عليها الملائكة رحلتي الجديدة.
لا أومن بالمصادفات العبثية، فلشدّ ما تكررت
، وما أكثر ما خبِرتُ مقاصدها ...إنها إشارات شاهقة تجيء في كل فصولها رموزا، عليَّ
تصديقها والاجتهاد في تأويلها.
• غيمة الشنفرى في الباحة
في جدة، أخذني مُرافقي، الذي وجدته بانتظاري،
إلى فندق بوسط البلد ، وفي منتصف النهار، انتقلنا إلى مدينة الباحة(2) في ظرف ساعة
إلا ربع، لأستقرّ في فندق كولدن توليب (غرفة 610). حيثُ التقيتُ، وخلال أسبوع واحد،
نخبة من الأصدقاء الأدباء (3) الذين استأنسنا برُفقتهم الطيبة .
الباحة ،يد الله المبسوطة وغيمته المدرارة
بالخيرات في أرض هي الأصغر في البلاد ، تقع بين مكة وعسير في الجنوب الغربي ، جمعت
بين اعتدال الجو والطبيعة المتنوعة المِعطاء ، وسط جبال بأشكال فنية مذهلة ووديان وشلالات
وغابات ومنتجعات وكهوف ومغارات ؛كل هذا وسط أشجار اللوز ونوّاراته البيضاء ، والعرعار
والخوخ والمشمش والرمّان والعنب .
هذه الجنة الأرضية كانت – في ما يُقال
– مأوى للأيام الأخيرة للشاعر الشنفرى ( قُتِلَ حوالي 70 قبل الهجرة ).
من أهم ركائز الباحة ، تاريخيا ، غامد وزهران،
والذين ينسبون إلى الرسول ( ص) وصفه لهم أثناء زيارتهم له : " حكماء ، فقهاء ،
كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء
" .
كما تمتلئ كتب التراجم والأعلام بأسماء
كثيرة من الأدباء والعلماء والصحابة والمجاهدين ، رجالا ونساءً ، منهم أبو هريرة والخليل
بن أحمد الفراهيدي ، وغيرهما من النجوم الزاهرة .
***
انتهت الندوة وتفرقت بنا السبل، وكانت المحطة
الموالية من ترتيب زملائي في نادي الأحساء،ولا سيما الصديق النبيل، نبيل المحيش، حيث
عملوا على تهيئ كافة الظروف الملائمة لأزور مكة قبل التوجه إليهم .وهكذا، سافرتُ إلى
جدة يوم الجمعة ،واجدا في انتظاري شابا شهما، سيُقلني بسيارته إلى مكة ،مارّين بعدد
من نقط التفتيش، بحيث لم يتبق على موسم الحج سوى عشرة أيام ،والحراسة مشددة على المتسللين
بدون ترخيص.
تيسّرَ كل شيء، وحجزت في فندق "مكة
كراند كورال"، خلف الحرم مباشرة على طريق أم القرى ،وأديت مناسك عمرتي وعمرة لوالديَّ
بنفس القوة والإحساس، فامتلأت - حقيقة- من جديد بنور محا كل النّدْبات التي شغلتني .
كأنها المرة الأولى والأخيرة ، فلا عُمرة
تستقيم بدون خيال يستعيد الخطوات الأولى لسيدنا إبراهيم وصولا إلى سيدنا محمد ...وأنا
مُدرك أني في مكان لا يشبه الأمكنة ، يحمل أزمانه السحيقة والآتية .
عدتُ بعد العُمرة ،استحممتُ بماء بارد ،ثم
خرجتُ لاكتشاف أماكن جديدة على خطى الأنبياء، بعيدا بعض الشيء عن الحرم، متوغلا في
الاتجاه الشرقي لمكة ، وكان الظلام قد شرع في زحفه المُعتاد.
دخلتُ دربا ضيقا، وفجأة رنَّ هاتفي، فتوقفت
أمام دكان صغير يبيع كل أنواع البخور ، بداخله شيخ طاعن في السن ؛ وأنا مندهش أن تكلمني
ابنتي مريم التي قالت لي، وهي تبكي وتضحك، إنها رأتني في حلم وهي غارقة في نوم الظهيرة .
لم تتجاوز المكالمة ثلاث دقائق. أغلقتُ
الهاتف ببطء في حالة من الذهول، ثم هممتُ بمواصلة سيري ،فناداني الشيخ الذي كنتُ متوقفا
أمام دكانه . سألني: هل أنتَ مغربي؟ فأجبتُ بنعم. بعد ذلك دنوتُ منه مستفسرا، فبدا
مترددا يفكر قبل أن يجيبني، ثم أخرج كرسيا خشبيا وطلب مني الجلوس بعدما أرسل صبيه كي
يأتينا بالشاي.
تجاذبنا أطراف حديث عن المغرب، في كلام
عام، وأشار لي في ملاحظة دقيقة، بأن من يأتي من المغاربة وغيرهم للحج،عادة ،لا يدخلون
هذه الأحياء القديمة والبعيدة عن المراكز الروحية والتجارية الكبرى.
لم أفهم لحظتئذ أنه ألمح إلى أن قَدَرًا
مخصوصا لي ساقني إليه ، وكنتُ أعرف أن كل هذا الكلام هو تمهيد لكلام آخر في نفسه قد
يقوله وقد لا يفعل ،لذلك قررت أن أخوض معه لعبتي ، فقاطعته وتحولتُ من مستمع إلى سائل،
وعرفتُ أن أصوله مكية ،له خمسة أبناء ذكور؛ أربعة منهم يمتهنون التجارة، وواحد يعمل
في انجلترا ،كما له بنتان متزوجتان.
وفي لحظة ،هي فجوة ضرورية للحوار ،جرى الصمت
بيننا .كلّ واحد منا يُخمن في ما يفكر فيه الآخر .وربما أحس الشيخ حامد أحمد بركات
أني سأنهض مواصلا جولتي، فبادرني بلهجة حازمة، بأن لديه أمانة ورثها عن أبيه، تعود
إلى حاج مغربي، وقال بعدها جملة ضغط عليها كثيرا :" ربما أفعل خيرا حينما أسلمها
إليك أنتَ ابن بلده".
ثم ولجَ إلى دكانه لبضع دقائق ،وعادَ يحمل
ملفا ورقيا حال لونه، بداخله مظروف مغلق، بدا مليئا بالأوراق.
تركته يجلس وهو يكلمني، دون أن أبدي رغبة
،عجلى ، في تسلم ذلك المظروف (وقد خمنت أنها أمانة عليَّ إيصالها إلى ذويه بالمغرب).
غير أن ما سيقوله فاجأ أفق انتظاري .قال
بأن المظروف أمانة من جدهم يوسف بركات ، منذ بداية القرن التاسع عشر، راجيا مني قراءة
الأوراق بالليل ، والرجوع إليه في الصباح لاستكمال الحديث في الموضوع .
شعوري في تلك اللحظة ظل غامضا مثل ريح لا
جهات لها.
مددتُ يدي إلى يده التي ترتعش وهو يسلمني
المظروف، كما لو كان سيفقد إرثا تليدا.كمشتُ عليه ثم أتممتُ سيري مسرعا،وفي طريقي اشتريتُ
بعض الفواكه الموسمية وزجاجة ماء معدني . في غرفتي بالفندق ،نزعتُ حذائي ،مرتميا على
الأريكة مستعجلا إخراج الأوراق، وأنا على حافة علو دهشة لا حدود لارتفاعها، تطوف بها
رياح كل الجهات.
فتحتُ المظروف مُخرجا إحدى عشرة ورقة من
كاغد سميك أصفر اللون ، كُتبتْ بمداد أسود لم يفقد نصاعته، على وجه واحد، في كل صفحة
ما بين سبعة عشر وواحد وعشرين سطرا ، لذلك لم تُتْعبني إذْ قرأتها في زمن قياسي، ثم
قمت لأجل الاستحمام، ثم عدت إلى الكنبة أعيد قراءة أوراق الشيخ الحاج سُليمَان الغَزْواني،
والتي كتبها إلى صهره سي مبارك الهشي وأولاده بدوار أولاد إبراهيم يروي لهم ما وقع
له ولابنتهم، وذلك سنة 1220- 1221 هجرية (1805و1806).
• قال سُليمَان الغَزْواني
" بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا وحبيبنا
محمد وآله وصحبه .
الحمد لله العظيم ذي الجلال والإكرام المانّ
علينا بنعمة الإيمان والإسلام وجعلنا من أمة محمد حبيبه الذي جعله للرسل ختام خاتم
الرسل وعليه من الله أزكى التحيات والسلام المبين لنا معالم حدود الأحكام مفرقا فيه
بين الحلال والحرام. أَحْمَدُهُ حَمْدَ مُعْتَرفٍ بالتقصير،عائذ بوجهه الأكرم ،وجلاله
الأعظم، من سوء المصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،شَهَادَةً تَـتَكَـفَّـلُ
لي بالسلامة من كل مَلامَة وتُضِيءُ في ظُلْـمَتَيْ القبر والقيامة وتُنِير،وأصلي على
سيدنا محمد نبيه وخِيرَتِه وصَفِيِّه البشير النذير،وعلى آله الأعظمين وصحبه الأكرمين،صلاة
تَـفُوتُ العَدَّ والتقدير،وتكون لي أَثْرَة باقية، وجُنَّةً واقية من عذاب السعير،وتمحو
بها من كبير زَلَلِي ومَسْطُور خَطَلِي ما جرى به قلم التقدير.
وبعد، فيقول العبد الفقير لرحمة ربه المعترف
بتقصيره وذنبه الخاطي :
كل ابن آدم ضعيف ولو كان شريفا بن شريف،
وما وقع في الدوار بيني وبين الشريفة المصونة حليمة ابنتكم كان مقدرا موقوتا باش يقودني
في رحلة عجيبة وغريبة لم يكن يتصورها إنس ولا جن، ولكنها كانت مكتوبة عند ربي عز وجل.
الخوف عدو، بعد وقوع ما وقع بالروضة[ المقبرة
]. قالت لي، إما أن نهرب أو أحفر لها قبرا وأسترها إلى الأبد.
والموت آخر ما أفكر فيه، فقد صرتُ مسؤولا
عنها فيمَّمتُ وجهي بعدما سرقنا فرسين، نحو مراكش ، ولم أكن أعرف غيرها، وفي نيتي الاستقرار
في قرية تَحَنَّاوت التي وصلتها ،وسرعان ما اشتغلت خماسا لدى سيد الحاج عبد الغني بن
الرويمي، وفي السوق الأسبوعي أخذت الشريفة المصونة لالة حليمة لدى القاضي وعقدت عليها
بضمانة سيد الحاج.
بعد خمسة أشهر ، وأنا بمراكش سمعتُ برّاح
السلطان المولى سُليمَان يدعو من يريد التوجه إلى بيت الله الحرام، وكنت قد بدأت أعاف
نفسي على فِعلتي، خصوصا بعدما التقيت بالعطار امْحَيحْ وقال لي بأنك سخّرت من يأتيكَ
بخبرنا .
ساعدني كثيرا الحاج بن الرويمي، كثّرَ الله
خيره، بعدما أخبرته بكل شيء ورغبتي في الاغتسال من إثمي العظيم الذي أحمل وزره وحدي.
انطلقتُ، أنا ولالة حليمة، مع ركب الحجاج
المغاربة المنطلق من مراكش برّا إلى أن وصلنا أرض الكنانة ، واضعا رحلي ببلاد القاهرة
لثلاثة أسابيع، بحي المغاربة خلف الأزهر الشريف ،عند الشريفة الحاجة فطيمة ،أم سيدي
فؤاد. وقد تركتُ عندها بعض متعلقاتي الخفيفة ناسيا بينها كاغد الزواج ؛ولمّا كان بيننا
وبين موعد الحج حوالي شهران ، رحلنا للتقديس بالقدس الشريف. وألهمني الله فسكنت بالحي
المغربي، وشدّني سيدنا إبراهيم إلى جواره ، فتخلفتُ عن الركب المغربي الذي واصل سيره
نحو مكة المكرمة، إلى العام القادم.
بقيتُ هناك، فعملت نجارا وعقدت على لالة
حليمة زوجتي مرة أخرى تبرُّكا بالمكان ، لأجل حيازة ورقة تُعفيني السؤال.عقدتُ لدى
قاضي القدس الشريف. وبعد سنة ،مع بداية بشائر موسم الحج الجديد، شددت رحلتي وزوجتي
التي كانت حبلى.
في مكة المكرمة، نصبت بالقرب من الحرم خيمة
كنت أحملها معي، بجوار محل تجاري كبير للشيخ يوسف بركات، أطال الله في عمره، يبيع فيها
القِرَب الجلدية وكل أنواع البخور والمصوغات ، والذي صرت أقضي عنده وقتا طويلا... أكتب
الرسائل للمقيمين من بلدان أخرى ،فيما كانت الحاجة الشريفة لالة حليمة تقضي وقتها في
التعبد ما بين باب الكعبة والمقام.
لم نقصد شيئا حينما جاءها الطلق .انتهينا
من صلاة المغرب، انفضَّ أغلب المصلين وأردت حملها إلى خيمتنا التي لم تكن بعيدة، فرفعت
عيناها ورجتني تركها تلد داخل الكعبة، فلم أتردد وحملتها فوق ظهري ، ودخلت بها دون
أن يرانا أحد ،وكان الله قد أغشى الأبصار عنا .
في منتصف الليل، وضعتْ وليدا مُباركا، سمعَ
القرشيون صراخه في الفجر فهاجمونا بقوة ورمونا ، معتبرين ما حدثَ كبيرة من الكبائر،
وقد قرروا قتلنا لولا توسط الشيخ يوسف وبعض الأخيار، بينما كان آخرون يحرضون على قتلنا
وقتل الطفل بدعوى أنه لما يكبر سيدعي النبوة وملكيته للكعبة التي ولد فيها.
اهتدوا في النهاية أن نرحل بعيدا دون رجعة،وشدّدوا
ألا نقتربَ من الكعبة ، فهاجرنا مسرعين وحالة الحاجة الشريفة لالة حليمة صعبة وهي نفيسة.
أخذتُ معي بطانيات وبعض الأكل وصعدنا لثلاث ساعات مشيا، وصلنا الجبل وأمام الكهف نصبت
خيمتي وصرت، بعد اتفاق مع سيدي الشيخ يوسف، أهبط شريطة أن أبقي بعيدا عن الحرم وعن
عيون القرشيين الذين أمروا بطردنا. اشتغلتُ نجارا، في الحي الذي توجد به سكنى سيدي
الشيخ. وفي المساء، بعد المغرب، أصلي وأعود بالماء والأكل صاعدا إلى الجبل. كانت الخيمة
لقضاء النهار، وفي الليل كنا ندخل الكهف للمبيت ،خوفا من الذئاب والنجوم، بعدما اعتنيت
به ووضعت بداخله حصيرا وغطاء صوفيا .
في كل هذه الفترة، وخلال سبعة أشهر، كانت
الشريفة المصونة مريضة منذ نِفاسها، وقد جربنا كل وصفات العطارين وحالتها لا تزداد
إلا سُوءً.
في يوم الثلاثاء من نهاية 1221 للهجرة ،
صليتُ المغرب كعادتي وطلعت، وقد تعودت أن أجدهما بجوار قنديل زيتي، فتيلته تتراقص.
كان الغار مظلما، ولالة الشريفة قد توفاها
الله، وإلى جوارها ولدنا إسماعيل الذي ظلّ يشدُّ على يدها اليُمنى بعينين دامعتين.
الله وحده يعلم ما وقع لي، وبعد دفنها ألهمني
ربي بعد تفكير، فكتبتُ هذه الرسالة التي أسلمها إلى سيدي الشيخ يوسف بركات،هي وابني
وابنكم سيدي إسماعيل ،ليرسلهما إليكم مع أحد الحجاج المغاربة.
وأدعو الله ربي أن يغفر لي ولذريتي ويعفو
عني ويرحمني .
ابنكم المذنب ، الحاج سُليمَان الغَزْواني .
• شرقُ الأرض
لم أنمْ ليلتها لأنني كنت أعود لقراءة الرسالة
إلى ما قبل الفجر، توضأتُ وخرجت أصلي في المكان الذي كانت تلك المرأة وزوجها يصليان
معا آخر مرة. بعد ذلك، كأنه السحر الذي مسّنى، حاولتُ تخيل الساعات الثلاث التي تقود
نحو الغار، فمشيت قليلا وعدت إلى الفندق لأني كنتُ على موعد مع الطائرة في جدة للتوجه
إلى الدمام ومنها إلى الأحساء. نمت إلى حدود الساعة التاسعة صباحا، ثم قمتُ مسرعا نحو
الشيخ متلهفا سؤاله عن الكثير من الحواشي ، لم يكن – ربما- ينتظر عودتي بهذه السرعة
، لذلك استبشر لما رآني، وقضيت رُفقته حوالي ساعتين تناولنا خلالها ، معا ، فطورنا
،وروى لي فيها ما كانوا يتداولونه بالسمع حول هذه الحكاية من معلومات ووقائع تضيء ما
جاء في الرسالة، وهي التي لم تزدني إلا انقلابا.
عدتُ إلى الفندق في منتصف النهار لأخرج
متوجها نحو مطار جدة بالتاكسي، ومنها إلى الدمام حيث التقيتُ الصديق الناقد محمد العباس،
وتوجهنا نحو الأحساء ؛ بلد طرفة بن العبد. وصلناها والليل قد شرع يزحف. نزلت بفندق
رفيع المستوى، وبعد استراحة لساعة، توجهنا إلى مقر النادي الأدبي للأحساء حيث وجدنا
كافة الأصدقاء من أعضاء النادي وأساتذة الجامعة، ومنهم صديقي نبيل المحيش الذي سهر
على كل تفاصيل هذا اللقاء الذي جئته مدعوا لإلقاء محاضرة أدبية (4).
لم أر الأحساء لأني دخلتها في الغروب، وغادرتها
فجرا نحو الدمام ثم جدة التي طرتُ منها عائدا إلى الدار البيضاء.
والأحساء، هي أكبر مُحافظة بالمملكة ، تشغل
ربع المساحة، وتقعُ في الجهة الشرقية ، يعود تاريخها إلى أزيد من أربعة ألاف سنة قبل
الإسلام ، وعلى أرضها عاش الساميون والفينيقيون والكنعانيون وطسم وجديس وبنو تميم ،وأخيرا
بنو عبد قيس الذين كانوا لحظة أنار الإسلام الجزيرة .
بُنى بالأحساء مسجد جواثا ، وهو ثاني مسجد
أقيمت فيه صلاة الجمعة بعد مسجد الرسول (ص).
وخلال مائة وثمانين سنة ، سكنها القرامطة
الذين جعلوا من الأحساء عاصمة لهم ، بعدما استقدموا الحجر الأسود من الكعبة .
بالإضافة إلى تاريخها وموقعها والأسماء
التي تنتمي إلى أفقها، فإن الأحساء تشتهر بجودة تمورها وأرزها وبها عيون مياه طبيعية
، فضلا عن منتزهات وآثار، مثلما يوجد بها اكبر حقل نفطي في العالم .
• قال حامد بركات
في الطائرة، تغلبتُ على النوم لأسجل كل
ما رواه لي الشيخ حامد من تفاصيل حكاية الحاج الغَزْواني ، فكتبتُ متوخيا الاختصار
والدقة ثم الأمانة، مرتبا الوقائع لتملأ الفجوات الناقصة في الرسالة، أو تفسر لي بعض
الاغتماض.
يتداولون صورة سُليمَان الغَزْواني القادم
من المغرب،مُلملمين ما تبقى من تفاصيل الحكاية التي تروي بأنه كان في الثانية والعشرين
من عمره، ملتحيا، طويل القامة ، حليق الرأس إلا من قرن مفتول، متدل على كتفه الأيمن
من جهة أذنه.
أما السيدة حليمة، فهي قصيرة القامة، نحيلة
بعض الشيء، ذات الخمس عشرة سنة تقريبا ، صامتة باستمرار .
يقولون إن سُليمَان الغَزْواني حكى لجدهم
الشيخ يوسف بركات أنه كان يتيما ، جِيئَ به من إحدى الزوايا القرآنية بمراكش ، حيث
كان يدرس ويتعلم .جاؤوا به إلى دوار أولاد ابراهيم ليُعلم الأطفال ويقرأ على الموتى
في المقبرة الوحيدة ،ثم صار كاتبهم وله أيضا أشعار بالعامية المغربية. وقد وقع أن أحب
حليمة بنت الهشي التي كانت تزور قبر أمها باستمرار، فاستأنسا ببعضهما، وهيَ تحكي له
ما يقع لها من جانب زوجات والدها ومن إخوتها أيضا.
وحتى لا يُفتضح الأمر ويتحول إلى ما لا
تُحمد عقباه ، فرا نحو مراكش، ومنها ساروا ركب الحج المغربي. وفي القاهرة والقدس ظل
يحمل ذكريات لا تنسى، يحتفظ بها لوحده. ويروي السيد حامد الحكاية عن جدهم الشيخ يوسف،الذي
أكد لهم أن الحاج سُليمَان الغَزْواني مرسومة على وجهه علامات البركة والقبول، وكان
الشيخ يقول لأهله بأن هذا المغربي لو جاء في عهد الرسالة لكان واحدا من كتاب الوحي،
يُحبُّ زوجته ولا يرفض لها طلبا.
هجرة أخرى، حينما سيطرده القرشيون ، بعدما
اعتبروا بحكم الماضي ،وقاسوا الشاهد على الغائب في جمع كل غريبٍ وقياسٍ مُريبٍ، وأخذٍ
بالظنون، واستباق لكل فعلٍ "مجنون" ، مخافة ما قد يكون ، ولهم العبرة في
ما ارتكبه في أول الزمان إساف ونائلة.ولا شك أن بعضهم عبروا عن خوفهم من مطالبة ذلك
المغربي بالكعبة التي ولد فيها، لذلك قرروا في البداية، قتل الطفل وأبويه، لولا ألطاف
الله الخفية.
عانى كثيرا في هجرته التي اختبره الله فيها،
وقاسى أكثر من ذلك بعد فَقْدِ زوجته حتى أنه لم يُعط لوليده اسما إلا بعد وفاتها، وكانا
يناديانه بالشريف.
لمَّا سكن الغار، كان يعمل بإتقان وتفان
؛ يوميا ما عدا يوم الجمعة ، وفي باقي الأيام يجالس ، لحظة استراحته ما بين الظهيرة
والعصر ، الشيخ بركات. وكثيرا ما كان يروي له عن حياته المغربية أو عن أحلام يراها
في الغار عن ابنه الشريف، ولم تنته مروياته إلى مسامع الناس لأن الحاج يوسف، بدوره،
ظل يخفيها في نفسه كأنها سر من الأسرار.
وحينما كتب رسالته لأهل زوجته، وجاء بإسماعيل،
رحل دون أن يقول شيئا، وإن كانوا يعتقدون أنه رحل إلى القدس أو القاهرة حيث كان يلهج
بهما كثيرا.
وفي تتمة الجزء الأهم ،مما جرى بعد سفره
،روى الحاج حامد أحمد بركات أن جدهم حينما تسلم الولد وعده بدفع الأمانة إلى أهلها
مع حلول موسم الحج الموالي، ولكنه لم يفعل لتعلقه بإسماعيل ، رغم إلحاح زوجاته الأربع
للوفاء بوعده معللا لهم ذلك بتخوفه من أن يقتله جده بالمغرب.
وبعد مرور سبع سنوات، قبل بدء موسم الحج
بأيام قليلة، رأى الحاج يوسف في منامه الحاج سُليمَان الغَزْواني دامعا في صمت مُظلم،
ورغم ذلك ظل مُصرا على عدم الوفاء بالأمانة بدعوى أنه لو تركه ونجاه الله من غدر أهله،
فإنه سيعود يوما للمطالبة بالكعبة الشريفة، وأولى له البقاء أمام أعينهم ،بعيدا عن
المغرضين.
مات الحاج يوسف بركات، وكبُر إسماعيل حتى
بلغ الثانية والعشرين من عمره، ثم اختفى دون أن يعرف أحد عنه شيئا. ويُتداول أن صغرى
زوجات الحاج يوسف، وكانت هي الرحيمة بإسماعيل ،جعلته يقرأ تلك الورقات ليختفي في اليوم
الموالي.
وهنا ينتهي خبر إسماعيل وحكاية الحاج سُليمَان
الغَزْواني.
• ثرثرة في حي المغاربة
انشغلت أثناء عودتي إلى الدار البيضاء،
بكثير من التدابير، دون أن أنسى هذا الأمر الذي لم أبُح به لأحد، ليس خشية عدم التصديق،
وإنما لأنه أمر غير مكتمل، ابتليتُ به وعليّ ستره، وهو ما كان وراء إمساكي عن الكتابة
،حول رحلاتي الثلاث، بعد رجوعي.
وفي أقل من شهر، كنتُ على موعد مع رحلة
جديدة إلى القاهرة (5)،ومنها إلى قطر ، فتهيأت لها من جديد .
هذه المرة، هبطت القاهرة ونفسي مقبوضة لا
تعرف لها وضعية، لا رغبة لي في اكتشاف أماكن أخرى، وطمعت أن أكون خفيا، لا أكلم أحدا
إلا للضرورة الملحة ؛ وقد تركتُ خلفي، وأنا أمتطي الطائرة في منتصف ليلة 29 نونبر
2010 ،أمطارا طوفانية بكل المغرب.
خامرني شعور بأن أنتهي من أسفاري، وأكتفي
بالجغرافيا المحددة المرسومة لي، في بلاد تامسنا الكبرى، أطوف الدواوير والقبائل باحثا
في ما بصدور الناس أجمعين.
في ليلة السفر الماطرة، رافقني علاء ابني(11
سنة) إلى الشارع القريب لأمتطي سيارة أجرة تُقلني نحو محطة القطار المتجه إلى المطار
، وعلاء هو ابني البكر الوصي الأول على كل شيء أثناء غيابي، فأوصيته خيرا بأمه وأختيه،
ولما انتهيت بدا وهو يستمع لي كرجل يُطمْئِنُ شيخه، وخلف وقاره الطفولي، ورقة دسها
في جيبي، بها أسماء لعب خفيفة له ولأختيه.
في الطائرة، استسلمتُ للنوم ولم أفق إلا
على صوت الربان،في فجر رمادي مضمخ باحمرار ثقيل، يخبرنا بتعذر النزول بمطار القاهرة
الدولي لوجود "شبورة"كثيفة تمنع الرؤية ، فتوجهنا إلى مطار الأقصر وبقينا
إلى غاية الساعة الحادية عشر، ساعة رجوعنا إلى القاهرة. وبفندق البيراميزا (الطابق
الثاني غرفة 265) نزعتُ عنى الجاكيت، فوجدت ورقة أخرى مدسوسة من توقيع زينب ابنتي،
تطلب لنفسها لعبة اليويو ،زرقاء اللون.
أثناء أيام الندوة، التقيتُ مع شعراء وروائيين
وجامعيين من كل أفريقيا، جنوب الصحراء، مبدعون ومبدعات، وبينهم اندسَّ "رباطي"
، بطريقة "مشبوهة" ،لم أكن أعرفه، ادعى أنه روائي يكتب بالفرنسية عن الهجرة
والمهاجرين، بدا مثل مُخبر مُدع، تجنبته بعد أن علمت أنه ينتمي إلى أسرة عريقة !! في
الاستخبارات المغربية.
وهكذا بقيتُ وحيدا، أحضر جلسات الندوة وأقضي
باقي أوقاتي بمقهى شقاوة أو القاهرة القديمة.
في اليوم الثاني لي بالقاهرة، فاتح دسمبر،
صرت أفكر جديا في الحاج سُليمَان الغَزْواني والأسابيع الثلاثة التي قضاها بالقاهرة،
دون أن يترك لنا معلومات وافية باستثناء سطرين، يقول فيهما أنه قطن بحي المغاربة خلف
المسجد الأزهر عند السيدة فطيمة أم فؤاد.
وصلتُ شارع الأزهر في الميدان ، وعندَ أول
زنقة دخلتُ مقهى " ليالي سليمان " جوار سوق الخُضار ،التبليطة، حيث احتسيتُ
شايا ثم قمتُ شمالا ، مرورا بحوض السلطان قايتباي ثم منزل السيدة زينب خاتون ، وصرتُ
أنعطفُ عبر شارع المقريزي ثم الدرب المقابل لمدرسة العيني.
ووسط تاريخ متهدم من البيوتات ، سألتُ خبّازا
شدتني إليه رائحة خبزه العزيزة فأشار عليَّ بالإنعطاف يمينا ثم شمالا ومن درب ضيق ،
قبل عطفة حوش النمر ، دخلتُ حوش حي المغاربة وقد آل خرابا ينطق بقول أبي البقاء الرندي .
امرأة بدينة تتشح بالسواد ، سألتها في البداية
فقالت لي ربما يكون من تبحث عنهم قد انتقلوا إلى باب الشعرية ، قبل ان تستدرك – وهي
عادة جميلة في هذه السيدة ..كلما استدركت عادت الروح على حكايتي - ثم تدلني بحبور على
امرأة أخرى قادتني إلى امرأة ثالثة اسمها أم وجدي، وجدت عندها طريقا سالكة لحكاية متفرعة،
فقد أخبرتني بأن سيدة اسكندرانية الأصول وتقطن بصقلية، جاءت قبل سنتين وسألت عن نفس
الاسم ، دون أن تكشف عن صلتها به ،وقالت بأن المغربي الحاج سُليمَان ترك وثائق في هذا
المكان الذي تقطنه أم وجدي، فضحكوا منها، ثم عادت السنة الماضية، وألحت كثيرا في دخول
البيت، فلم يتركوها، ولكنها قالت لهم بأن شخصا سيأتي يوما ما ليسألهم، وفهموا بعد ذلك
أنها كانت تتحرى عن الموضوع منذ أربع أو خمس سنوات، تأتي في إجازة فصل الربيع فقط،
لكنها قبل سنتين تأكدت، بوسائلها الخاصة ،من البيت الذي نزل به الشيخ سُليمَان الغَزْواني
، بل قالت لي إحدى الجارات بأنها عرضت عليهم شراء البيت منهم فرفضوا.
تحول اهتمامي من البحث عن حكاية وتركة الشيخ
الغَزْواني إلى تلك المرأة الإسكندرانية الصقلية التي تبحث عما أبحث عنه، وتعرف ما
اعتقدت أني الوحيد الذي يدركه من خلال ما لديَ من وثائق.
سجلتُ اسمي وبريدي الإلكتروني في وريقات
صغيرة سلمتها لأم وجدي وأخيها، الذي يقطن معها ،وللجارات اللواتي لهن علم بكل الحكاية،
وصرن مشاركات في البحث عن فك اللغز.
كانت الساعة تشير إلى السابعة مساءً حينما
ودعت أم وجدي ومن معها ؛فهم بالتأكيد، لا يعرفون شيئا ولا يملكون أية معلومات عن خبر
قديم، يبدو مثل حكاية تجري بدون توقف، في مسارب تحت الأرض وفوقها .
لم أظفر بشيء . جئتُ أبحث عن تفسيرات لصفحات
محدودة، فانفتحت أمامي صفحات أخرى لتلك الاسكندرانية الصقلية. أما أم وجدي وباقي ساكنة
الحي فهم مصريون لا يعرفون شيئا عن السيدة فطيمة أم فؤاد أو الشيخ سُليمَان أو عني
؛ وفهمتُ ، ربما بحدسي في لحظة صفاء وأنا بمقهى شقاوة، أن انشغالي وانشغال تلك السيدة
بهذه الحكاية والبحث فيها ،هو ترف فوق الترف يعني مثقفا عجز عن إيجاد تفسيرات منطقية
لِمَا يقع أو ما سيقعُ في العالم العربي، فارتمى يبحث ويرقع في الخرايف القديمة. وبالتأكيد،
لا تختلف عنه تلك المرأة التي تحمل بدورها عطب النوستالجيا.
تركت القاهرة تتوجع بألم ظاهر قافلا إلى
الدوحة للمُشاركة في لقاء ثقافي موسع حول الرحلات العربية .
• رحلة الرياح
وصلت الدوحة(6) ليلا رفقة الأديب سعد القرش،
فوجدنا نخبة من الأدباء المتخصصين في جنس الرحلة مجتمعين من المغرب والمشرق، حيث شاركت
بورقتي واندمجت في الجلسات واللقاءات الجانبية، ولم نجد في الدوحة تلك الحياة الخلاقة
بفوضاها وأخطائها، فهي صامتة كأنها قُدّت من إسمنت وريح واقعية، ونحن نريد مسارب خيالية
لننزع فيها نحو آفاق مشتركة. فكرتُ أنها محطة عبور وليس محطة إقامة، رغم حسن الضيافة
وكرم المضيفين، كل شيء فيها إلا الحياة والخيال. لذلك سنجد عند أصدقائنا العرب، القادمين
من كل حدب وصوب، تلك الألفة والحميمية، فكل واحد منهم يشكل نصا مفتوحا على المؤانسة
والمعرفة.
وخلال إقامتي، التي دامت سبعة أيام ، كتبتُ
قرابة ثلاثين صفحة، هي أفكار وتخمينات، في خطاطة لرواية جديدة لم أسجل لها عنوانا بعدُ.وقد
بقيت كل هذه الفترة مشدودا إلى قصة سُليمَان الغَزْواني ، متفكرا في ما وراء كل هذا
دون ان أظفر بشيء ، تاركا ذلك للزمن ذي المقدرة الخارقة على تفكيك الرموز مهما تعتّقت
في خوابي بحور الأيام.
• آخر الأتباع
عدتُ إلى الدار البيضاء يوم حادي عشر دسمبر،
وفي نيتي التفرغ للكتابة، غير أن تدابير عائلية ضرورية أخذتني وشغلتني لفترة طويلة .
مع حلول السنة الجديدة، وفي اليوم الثاني
بالضبط ،وكان يوم أحد، ركبت سيارتي برفقة زوجتي وأبنائي ، دون أن يعرفوا وجهتي معتقدين
أننا سنتوجه إلى البحر قبل أن نعود، في الظهيرة، لتناول وجبة غداء شهية نحبها جميعا
بدرب البلدية.
يمَّمْتُ نحو دوار أولاد سيدي إبراهيم،
وهو لا يبعد عن الدار البيضاء جنوبا إلا بنحو ثلاثين كلمترا، لم تأخذ المسافة منا سوى
نصف ساعة، باعتبار أننا قطعنا عشر كلمترات ،تقريبا، نسيرُفي طريق داخلية غير معبَّدة.
توقفتُ بوسط الدوار، سائلا صاحب محل تبغ
عن حطة أولاد الهشي، فأنكر معرفته بهم، لكنه نادى على شيخ قاعد بالجوار، فلم يعرفهم
بدوره.
وأنا أكلمهما، كنتُ أرمي لهما ببعض المعلومات
عن شخص اسمه سليمان الغَزْواني الذي فر إلى الحج.. فلم يدروا شيئا ،ثم رميتُ باسم إسماعيل
الذي ولد بالكعبة. فصرخا قائلين : هل تتحدث عن سيدي إسماعيل مول الكعبة ؟
عدتُ إلى الوراء متنفسا الصعداء، نظرت إلى
ساعتي وكانت الساعة العاشرة والنصف، كأني داخل في مفاوضات أرسم بها الزمن.
طلبتُ من صاحب المحل مدّنا بكرسيين وزجاجة
ليمونادة، وأخرى أرسلتها إلى السيارة المركونة أمامي ،تحت ظل شجرة أوكالبتوس وارفة.
وحينما رغبت في معرفة المزيد من المعلومات
عن سيدي إسماعيل، قال لي الشيخ بأن كل ما أريده موجود عند أهل حطة تبعد بحوالي كلمتر
واحد، مشيرا بيده إلى بيت كبير معزول بكدية ظاهرة غربا.
ترجلتُ رُفقة عائلتي الصغيرة،وهم في شَدَهِهِم
لا يفقهون ما أريد ، تاركين السيارة في مكانها، ووصلنا إلى تلك الحطة الكبيرة وهي في
حركة دائبة، بها أطفال عديدون. وسألت عن رب البيت فأخذوني، بدون استفسار أو تأخير ،
إلى قبة واسعة، متهدمة بعض الشيء ،وخامرني شك أنه كان بانتظارنا.
جلسنا على حصير أمام رجل بجلباب صوفي أبيض
، له شارب كث، متكئ على زربية ووسائد ذات ألوان مزركشة ؛ أمامه دفاتر وأكثر من دواة
ومبخرة ، ففهمتُ أنه فقيه . ربما أو أكيد اعتقدنا من زبائنه ، فسارعت - حتى أرتب للقاء
بلا فهم خاطئ- إلى إخباره بأني أريد معرفة خبر سيدي إسماعيل مول الكعبة.
ظل يرحب بنا بجمل سريعة ومتشابهة ، منتظرا
قدوم الشاي، وفهمت من كلامه أن الحطة التي يسكنها كانت محاطة بدوار كامل تخرب وفرَّ
عنه أصحابه إلى المكان الذي تركت به السيارة.
وروى لي بأنه آخر أتباع الولي الصالح سيدي
إسماعيل مول الكعبة، الذي حطَّ – قديما - رحاله بهذا المكان وكان سكان دوار أولاد سيدي
إبراهيم خدامه، ويُشاع أنه ولد بداخل الكعبة ولما كبر رأى في منامه ما قد أوحى له بأن
يسيح في الأرض إلى أن وصل إلى هذا المكان، وكانت له قدرة على مداواة أمراض كثيرة عن
طريق وضع يده فقط على موطن الداء.
وروى أيضا أنه قعد بهذا الدوار، ما يزيد
عن أربعين عاما، دون أن يتزوج ،وذات يوم اختفى، وبعد حَوْلٍ على اختفائه اجتاح الدوار
أكثر من مرض، ففر الناجون بعيدا عن هذا المكان باستثناء خُدّامه أصحاب هذه الحطة ،
الذين لم يمسسهم سوء.
ثم انتقلتُ أسأله في بعض تفاصيل ما كان
من شأن حليمة والغَزْواني، فقال لي بأن كل ذلك مجرد حكاية يتداولها الناس ، مجرد خرافة
اخترعتها عقولهم للتسلي، أو لإيجاد سبب يُرجِعون إليه ما أصابهم.
إحالات :
(1)- Gaspara
Stampa. poèmes [1991], trad. de l'italien par Paul Bachmann. Présentation.
Édition bilingue, 228 pages.
(2)- رحلتي الثانية إلى المملكة العربية السعودية ، ما
بين 24 و31 أكتوبر 2010 .
وقد حضرتُ الباحة ، ضيفا لدى النادي الأدبي
،في ملتقى الباحة الأدبي الرابع 1431ه ، والذي انعقد في محور "تمثيلات الآخر في
الرواية العربية " أيام 26و27و28 أكتوبر 2010.
وقد شاركتُ بورقة حملت عنوان :" سيرورة
تمثيل الآخر في السرد العربي
" .
(3) – من الأصدقاء الأدباء الذين التقيتُ بهم : معجب العدواني
وصالح معيض الغامدي وفالح العنزي وعلي الشدوي وسلطان القحطاني ويوسف المحيمد وصالح
زياد وأحمد صبره وعبد الرحمن سابي وحسن الزهراني ومحمد العباس ومحمد الحرز وحاتم الفنطاسي،
من تونس، وعبد الله إبراهيم وحافظ المغربي والأستاذ جمعان.
(4)- ألقيتُ بالنادي الأدبي الأحساء ، محاضرة تحت عنوان
: " كيف أقرأ الرواية ؟" وذلك يوم 30 أكتوبر 2010.
http://www.youtube.com/watch?v=uwPFP5Z_OWs
(5)- الرحلة إلى القاهرة كانت ما بين 29 نونبر و5 ديسمبر
2010 للمشاركة في ندوة : " الكاتب الإفريقي وتحديات العصر " في الفترة ما
بين 1و3 ديسمبر 2010 ؛ من تنظيم المجلس الأعلى للثقافة ونادي القلم المصري .
وقد شاركتُ بورقة تحت عنوان : " الإبداع
الشفاهي الإفريقي
".
(6)- انعقد بالدوحة – قطر في الفترة ما بين 6-9 ديسمبر
2010 مؤتمر "العرب بين البحر والصحراء " من تنظيم المركز العربي للأدب الجغرافي
، بالتعاون مع الحي الثقافي .
وقد شاركت بورقة في موضوع : " الرحلة
المغربية بين وعي الرحالة ولاوعي النص
" .
وحضر وفد مغربي متكون من السادة : عبد الهادي
التازي ،شعيب حليفي، عبد الرحيم بنحادة، عبد المنعم بونو، بوشعيب الساوري، عبد النبي
ذاكر، محمد رزوق، محمد بوكبوط، محمد الظريف، سُليمَان القرشي، خالد بن الصغير.