الرحلة الحجازية المغربية
في ظل الحماية الفرنسية
رحلة إدريس الجعيدي
السلوي سنة 1930م نموذجا
منذ أن حل الإسلام
ببلاد المغرب الأقصى وركب الحج المغربي يخرج باستمرار إلى المشرق العربي لتأدية فريضة
الحج (لمن استطاع إليه سبيلا، الركن الخامس من الدين الإسلامي)، وكان يوم خروج الحجاج
من مدنهم وقراهم يتم في احتفال كبير تقرع فيه الطبول، ويحضره الجميع من خاصة القوم
وعامتهم(1). وبمدينة فاس يتجمع معظم الحجاج القادمين من سائر أنحاء المغرب، وأحيانا
من غرب إفريقيا، باعتبار المدينة بوابة إلى الشرق وحاضنة لجامع القرويين. وكلما كانت
السلطة الحاكمة بالمغرب قوية كان حجم الركب قويا وطوائفه متعددة وهداياه كثيرة ومنحه
وافرة لأشراف الحرمين الشريفين وإلى مشايخ مصر وطلاب العلم وعابري السبيل...، وغالباً
ما يضم الركب جماعة العلماء وأفرادا من الأسرة المالكة، يشق طريقه برا عبر الجزائر
وتونس إلى طرابلس، ومنها إلى مصر عبر المناطق الصحراوية التي تنذر بها محطات التوقف
والمياه، وتصل مدة اجتيازها خمسين يوماً، وعندما يصل الركب يتقدم رأسا إلى القاهرة
في حالة يرثى لها من الإرهاق والحاجة إلى الراحة والتموين "لما نزلنا على مرحلة
من مصر خرج أهل مصر لملاقاة الركب والتبرك بمباشرة الحجاج، ومن له قريب قدم له مركوباً
مزيناً للدخول عليه للمدينة لأن مراكبهم لا تبلغ إلا ضعيفة من كثرة التعب والسهر وقلة
العلوفة والماء"(2).
يقضي الحجاج المغاربة
بالقاهرة مدة تزيد عن الشهر، ويتفرقون إلى ثلاثة فئات أو أكثر فالحجاج التجار يستقرون
عادة قرب الأسواق لبيع السلع التي قدموا بها، وفئة تقصد طولون لشراء الدواب وما تحتاج
إليه من أمور السفر، أما نخبة العلماء وطلاب العلم يفضلون السكن قرب جامعة الأزهر من
أجل الاحتكاك بالجو العلمي فيها وبالمدارس المجاورة لها، والتبرك بزيارة أضرحة الصالحين،
وأخيراً فئة الحجاج الفقراء الذين لا يقدرون على كراء المنازل ويفضلون النزول بأخبيتهم
جوار بعض الأضرحة والجوامع أو بالأرياف القريبة من القاهرة. وأحيانا كان المغاربة ينخرطون
في العمل الحربي أيام المماليك والعثمانيين، أو يتطوعون في حركة الجهاد كما حصل سنوات
الحملة الفرنسية على مصر(3).
أما مدينة الإسكندرية
فكانت تستقبل الحجاج المغاربة القادمين بحراً إلى مرساها، ومع تقدم وسائل النقل البحري
حجماً وسرعة انخفضت أثمنة الركوب إلى الإسكندرية، وبعد افتتاح الملاحة البحرية بقناة
السويس بداية من سنة 1869م، أصبح النقل بحراً ممكنا إلى مراسي السويس والينبوع وجدة،
وبالتالي تقلصت مدة الرحلة إلى الحج مقارنة مع المدة الطويلة التي تستغرقها القافلة
البرية، الأمر الذي ساهم في استقطاب عدد من الحجاج المغاربة الضعاف صحياً ومالياً،
لعدم قدرتهم على مواجهة مصاريف ومشاق السفر عبر الصحراء، وزاد من عدد الحجاج الدراويش
الذين كانوا ينزلون بزاوية أبا محمد صالح المغربي وغيرها بالإسكندرية.
وبعد الاستراحة في
مصر تنطلق من جديد رحلة ركب الحج المغربي إلى بلاد الحجاز في ظروف صعبة لا تقل خطورة
عن المرحلة التي تحدثنا عنها سابقاً، حيث يكثر قطاع الطرق وتزداد أهوال اجتياز الفيافي
والقفار والمضايق والخلجان.
وبعد انقضاء موسم
الحج بما له من فوائد وما عليه من مشاق، يعرج بعض الحجاج على مدن الشام خاصة دمشق والقدس
الشريف، وقد استقرت أعداد لا بأس بها بمدن مصر والشام لأسباب متنوعة. وبعد احتلال بلاد
المغرب ومصر في بداية القرن العشرين، كما حصل للجزائر وتونس وليبيا قبلهما، أقيمت الحدود
السياسية والجمركية والعسكرية فيما بينها مما انعكس سلباً على حرية التجارة بين العرب،
ومنع ركب الحج المغربي تدريجياً من التنقل بكل حرية نحو الشرق العربي إلى أن صدر أمر
المنع مع بداية الحماية، وصدرت قوانين رسمية تمنع أي مغربي من التنقل بشكل عشوائي خارج
التراب المغربي، إلا بعد حصوله على جواز سفر من مصالح فرنسا الإدارية والأمنية، أما
الحجاج فعليهم إحضار العديد من الالتزامات العائلية والضريبية والصحية مع وضع مبالغ
مالية بالبنك كضمانة للسفر إلى الحج.
ومن بين هذه القوانين
التي نص عليها الظهير الشريف المؤرخ في 14 مارس 1929م:
الفصل الثاني: ينبغي
لكل راغب في الحج أن يطلب تقييد اسمه في مركز المراقبة المحلية بمكان إقامته قبل ختام
شهر رمضان.
الفصل الثالث: يجب
على كل من يريد الحج أن يقوم بالأمور التالية الآتي بيانها وهي:
أن يثبت بأن في حوزته
مبلغاً لا يقل عن عشرة آلاف فرنك للقيام بصوائر سفره وإقامته بالحجاز... والأداءات
والضرائب مهما كان نوعها التي يمكن لولاة الحجاج أن يطلبوها منه.
أن يثبت بأنه قد دفع
جميع الضرائب والأداءات التي بذمته للدولة الشريفة.
أن يثبت أن عائلته
هي في مأمن من العوز والاحتياج ولا تتحمل مشاق ومصاعب في غيبته.
الفصل العاشر: لا
يمكن أن تسلم ورقة الركوب إلا بعد الإطلاع على رخصة السفر.. وشهادة تثبت بأنه صحيح
البدن وبأنه جرى تلقيحه وقاية من الجدري والهيضة "الكوليرة" والطاعون.
حرر بالرباط 15 مارس
1929م
إمضاء محمد المقري
والكوميسير المقيم العام ل.سان.
قانون دون من طرف
ضباط فرنسيين وهم: المدير العام للمكتب العسكري بالرباط، ومدير إدارة المحافظة والأمن،
ورئيس إدارة المراقبات المدنية، ورئيس المكتب السياسي، ومدير الأمور الشريفة، ومدير
الطب والصحة العمومية.
الرحلات الحجازية
قبل وأثناء الحماية
راكم الرحالة المغاربة
العديد من الرحلات الشاهدة على سفرهم إلى البقاع المقدسة، مسجلين فيها تجاربهم في تجاوز
المصاعب والتقاط النوادر والدراسة على المشايخ والتبرك بالمزارات، مع وصف الطرق والمسالك
ونقط الماء وأحوال البلدان والمدن التي مروا بها. وقائمة العلماء المغاربة الذين رحلوا
إلى المشرق العربي من أجل الدراسة والحج تكاد لا تحصى، وما دونوه من رحلات تعد بالعشرات
أغلبها ما زال مخطوطاً.
وخلال العصر الحديث
مثلاً نجد القائمة طويلة، بدءاً برحلة الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي، ورحلة
علي بن محمد الدرعي التمكروتي، ورحلة القيسي السراج المراكشي، ورحلة العياشي أبو سالم
ورحلة أبو القاسم الزياني وغيرهم(4).
وأواخر القرن التاسع
عشر نجد رحلات أحمد الناصري وإدريس بن عبد الهادي العلوي والحسن الغسال والسرغيني عبد
السلام وغيرهم، وكلها رحلات وسياحة داخل بلاد الإسلام لا يشعر فيها الرحالة المسلم
بالغربة، لكن هذا الشعور الروحي بدأ يتغير تدريجياً بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة
1930م وتونس سنة 1880م، إلى أن حلت الصدمة الكبرى بفرض فرنسا نظام الحماية على المغرب
سنة 1912م. معاهدة نصت ظاهرياً على عدم المساس بالأحوال الشخصية للمغاربة وبملكيتهم
العقارية وبشؤونهم الدينية والوقفية، مع الحفاظ على هياكل المخزن التقليدية، لكن الواقع
بخلاف ذلك، فقد تمَّ تسخير كل الإمكانيات والمؤسسات المغربية لخدمة مصالح إدارة الحماية
الحاكمة الفعلية للمغرب.
ورغم ظروف الحماية
استمر الرحالة المغاربة يدونون رحلاتهم الحجازية، فقد أورد المؤرخ محمد المنوني(5)
أسماء العديد منهم:
- رحلة أبي العباس اسكيرج "الرحلة
المكية" عام 1334هـ/1916م على رأس وفد الحجاج المغاربة نيابة عن السلطان مولاي
يوسف لتهنئة شريف مكة الحسين بن علي بالاستقلال، توجهوا بحراً عبر مرسيليا والإسكندرية.
- - رحلة أحمد الصبيحي السلوي
"الرحلة المغربية المكية" نشرها في جريدة السعادة عام 1305هـ/1917م.
- رحلة مولاي أحمد بن المامون العلوي
البلغيثي "النحلة الموهوبة النجازية في الرحلة الميمونة الحجازية" عام
1345هـ/1927م، أرجوزة بها 568 بيت.
- رحلة بوشعراء محمد حجي السلوي عام
1349هـ/1930م مصورة على شريط.
- رحلة إدريس بن محمد بن إدريس الجعيدي
السلوي "الرحلة الحجازية" عام 1348هـ/ 1930م. نشرها -تباعاً- في جريدة السعادة
وهي موضوع دراستنا وتحقيقنا.
- رحلة عبد الرحمن بن زيدان زار خلالها
مصر وسوريا ولبنان، منشورة في ستة أعداد بجريدة السعادة عام 1357هـ/1938م.
- رحلة أحمد بن محمد الرهوني رئيس وفد
الحجاج المغاربة عام 1355هـ/1937م منشورة بتطوان سنة 1941م.
- رحلة محمد ماء العينين بن محمد العتيق
الشنقيطي "الرحلة المعينية" سنة 1357هـ/1939م. حققها وقدم لها د. محمد ظريف،
وطبعتها مؤسسة ارتياد الآفاق بأبوظبي سنة 2004م.
- رحلة أبى بكر بن عبد الله عواد السلوي
منشورة -تباعاً- في جريدة السعادة عام 1932. وآخرون.
نلاحظ من بين هذه
المجموعة وجود أربع رحلات حجازية نشرتها جريدة السعادة، ثلاث منها كتبها رحالة من مدينة
سلا وهم: الصبيحي والجعيدي وعواد. ويمكننا أن نضيف رحلة حجازية رابعة بدأ صاحبها الحاج
أحمد معنينو السلوي بكتابة الحلقة الأولى بجريدة السعادة(6)، لما وصل بحراً من الدار
البيضاء إلى مرسيليا، لكنه توقف عن مواصلة كتابة باقي الحلقات بعد وصوله إلى الإسكندرية
للأسباب التالية حسب قوله: "...الدافع لنشر هذه الكلمة هو اللبناني المسيحي الشيخ
ياكب الذي يسهر على تحرير جريدة السعادة، وقد عرفني به في الباخرة توفيق الخياط أستاذ
اللغة العربية بثانوية مولاي يوسف بالرباط... نعم تلقيت عنه شبه دروس في التاريخ والعلوم
والمدنيات والديانات السماوية ونحن نمخر سواحل البحر الأبيض المتوسط... ولما بلغنا
ميناء الإسكندرية اتصل بنا بعض المهاجرين اللبنانيين المستقرين بالإسكندرية، الذين
فروا من ضيق الاستعمار الفرنسي، وعلى حسن نيتي بادرت بتقديم الشيخ ياكب ...أخاكم في
الوطن محرر جريدة السعادة بالمغرب ورفيقي في السفر... فصاح في وجهي أحدهم من قال لك
بأنه أخي؟ إنه خائن لبلاده وعون للمستعمر، ونحن نناهضه ونحاربه... اكفهر الجو وندمت
على ما فرط مني...منذ ذلك الوقت غاب وجه الرفيق المخدوش، ولم يجد وجها لمقابلتي بعد.."(7).
التعريف بالمخطوط
كما أشرنا سابقاً
فإن المخطوط الذي نحن بصدد دراسته وتحقيقه هو رحلة حجازية من تأليف إدريس بن محمد بن
إدريس الجعيدي، وجده إدريس هو مبدع الرحلة السفارية إلى أوربا سنة 1876 المسماة
"إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار" والتي قمنا بدراستها وتحقيقها سابقاً، وحازت
على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي سنة 2004 بأبوظبي.
وبعد أن قمنا بتصوير
غالبية حلقات هذه الرحلة الحجازية داخل الخزانة العامة بالرباط. اضطررت إلى مقارنتها
مع نص الرحلة التي اختطها بقلمه صاحبها إدريس الجعيدي في كناشة صغيرة توجد بالخزانة
العلمية الصبيحية بسلا(8) تحت رقم 475.
الكناشة عبارة عن
دفتر من الورق العادي عدد صفحات هذه النسخة الفريدة 59 صفحة، ومقياس كل ورقة 17x22 سنتيم، وفي كل صفحة حوالي 24 سطراً، وفي كل سطر ما بين 11 و13 كلمة وهي
نسخة سليمة من الخروم، كتبها صاحبها بخط مغربي مدموج دقيق ومليح بالحبر الأسود فقط.
ترجمة صاحب الرحلة
ولد أبو العلاء إدريس
بن محمد بن إدريس بن محمد بن إدريس بن عبد القادر بن الخياط بن علي بن عبد الله صاحب
الترجمة عام 1318هـ/ 1900م بسلا، درس بمسقط رأسه وبالرباط والجديدة وفاس العلوم الدينية
والأدبية وحفظ المبادئ العلمية والحسابية وحصل على عدة إجازات.
ولما رحل للحجاز عام
1348هـ الموافق سنة 1930م اجتمع بعدد من المشايخ المشهورين بمصر والشام والحرمين الشريفين،
وأجازوه منهم الشيخ نجيب المطيعي والشيخ إبراهيم السمالوطي وشيخ الإسلام بمصر في ذلك
العهد الأحمدي الظواهري والشيخ الضرير يوسف الأجدي، وبالمدينة المنورة الشيخ إبراهيم
بري والشيخ صالح التونسي، وبمكة المكرمة الشيخ عمر حمدان والشيخ بهاء الدين الأفغاني
والشيخ أحمد السنوسي، وببيروت الشيخ يوسف النبهاني، وبدمشق الشيخ بدر الدين الحسيني
والشيخ توفيق الأيوبي حسب ما هو مسطور في رحلته الحجازية التي نشرت في ذلك الوقت تباعاً
بجريدة السعادة وحصل إقبال كبير عليها وتصدى الناس لجمعها وانتساخها.
ثم أقبل مترجمنا على
التدريس بسلا بإشارة وإذن من مشايخه فختم عدة متون في النحو والصرف والفقه والحديث
الخ، وتعاطى خطة العدالة بسلا والصويرة مع القيام بالتدريس والفتوى والخطبة في بعض
الأحيان، انتظم في سلك علماء سلا من الرتبة الثانية بتقديم من قاضيها حينئذ العلامة
سيدي محمد بن إدريس العابدي العلوي. وزيادة على ذلك كان عضواً بالجمعية الخيرية السلاوية
وأحد المستشارين بالمحكمة الجنائية الفرنسية، وعضو مدينة سلا باللجنة العليا بالإذاعة
العربية راديو المغرب بالأعتاب الشريفة. وعلى إثر صدور الظهير البربري المشؤوم الذي
هدف إلى التفريق بين المغاربة عرب وأمازيغ، بعث سكان سلا بعريضة احتجاج إلى السلطان
الشرعي للمغرب بتاريخ 28 غشت 1930م، وكان من بين الموقعين عليها إدريس الجعيدي بعد
عودته مباشرة من رحلته الحجازية. كما اختير عضواً في الوفد السلوي المكون من عشرة أعضاء
للاتصال بالمراقب الفرنسي بسلا وبالباشا محمد الصبيحي من أجل تقديم طلب لقاء السلطان
وتقديم عريضة سكان سلا الاحتجاجية.
كان إدريس الجعيدي
عضواً فاعلاً في اللجنة الوطنية السلوية التي أحدثت عيداً وطنياً لم يكن معروفا عند
المغاربة، وهو أول احتفال شعبي بذكرى يوم جلوس السلطان محمد الخامس على كرسي العرش،
ربما تقليداً للاحتفالات التي شهدها الجعيدي بالقاهرة احتفاء بملك مصر فؤاد الأول كما
ورد في رحلته الحجازية.
واستمر قائماً بذلك
إلى أن وافته المنية في حادثة سير مروعة أواخر شعبان 1306هـ/ 1941م. وبعد انقضاء أيام
عيد الفطر وبمناسبة الذكرى الأربعينية أقام طلبة القرويين مهرجان كبيراً بالزاوية الدرقاوية
تذكاراً وتأبينا لفقيد العلم والآداب إدريس الجعيدي، حضر الحفل العلماء والشعراء والأدباء،
و جمعية إخوان الصفا لكون الفقيد كان رئيسها الشرفي.
الدوافع الخفية لنشر
الرحلة بجريدة السعادة:
أولاً جريدة السعادة
أسستها السفارة الفرنسية بطنجة في أكتوبر 1904م، إدراكاً منها بأهمية الصحافة العربية
في نشر أفكارها وسياستها وسط النخبة المثقفة المغربية التي كانت تتلهف إلى قراءة الأخبار
الصادرة بالجرائد المستوردة من المشرق العربي والتي لا تتماشى مع مصالح فرنسا. إذن
المشروع الفرنسي سعى إلى استمالة القراء المغاربة وشحنهم بالوعود مع إضفاء الصبغة العربية
الإسلامية على الجريدة وذلك بتوظيف أقلام أدباء مشارق مثل قلم الشامي الماروني ويدع
كرم، للكتابة بأسلوب أدبي راق لتمرير الخطاب الفرنسي على أعمدة جريدة السعادة.
ولما فرضت فرنسا الحماية
على المغرب سنة 1912م انتقل مقر جريدة السعادة من طنجة إلى الرباط العاصمة الجديدة
لتصبح منبراً رسمياً لأنشطة الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، ووكل أمر الإشراف عليها
إلى الضابط الفرنسي المستعرب أوجين ماركو، الذي ركز على تلميع صورة فرنسا كصديقة حميمة
للمغاربة والإسلام، مع فتح المجال للأدباء والشعراء والكتاب المغاربة ليساهموا في الكتابة
على أعمدتها ولو بأسماء مستعارة أو بدون توقيع. باعتبارها الجريدة الوحيدة التي كانت
تصدر باللغة العربية في المغرب(9) كما اهتمت بنشر أخبار عن الحياة اليومية للمواطن
العادي وبما يواجهه من مشاكل يومية لكسب ود وتعاطف المغاربة مع سياسة الدولة الحامية.
في هذا الإطار شجعت
الجريدة المثقفين الحجاج على نشر رحلاتهم الحجازية على صفحاتها بداية من رحلة أحمد
الصبيحي سنة 1917م خدمة لسياستها الإعلامية، وتقوية لإشعاعها وسط القراء عمدت إلى تناول
هذا الموضوع الروحي الذي يمس بعمق مشاعر المغاربة الدينية. وما الموقف الذي عبر عنه
بصراحة الحاج أحمد معنينو الوارد سابقاً إلا دليل على أنه كان يجهل حقيقة أو خبايا
التعامل مع جريدة السعادة، وبعد أن وعى بحقيقة شخصية مدير تحريرها الشيخ ياكب الشامي
تنبه إلى المرامي الكامنة وراء طلبه في نشر رحلته بجريدة السعادة.
فعلاً استجاب إدريس
الجعيدي وبحسن نية للطلب المذكور، ويمكن أن نستشف بسهولة دوافع تسجليه لهاته الرحلة
من خلال أسلوبه ومواقفه المعبر عنها في الرحلة، وهي مشبعة بالروح الإسلامية الهادفة
إلى إعطاء درس نموذجي للحجاج المغاربة الذين يرغبون في أداء فريضة الحج وفق القانون
والأوضاع العالمية الجديدة مع تقديم النصيحة. ومضمون الرحلة يتميز بالموضوعية في الرأي
وصراحة في النقد وتعلق برجال العلم وبالمؤسسات الثقافية والعلمية التي أبدعها رواد
النهضة العربية بالمشرق العربي دون أن يبدي التملق أو التزلف أو المحاباة لأحد.
الإطار التاريخي العام
للرحلة
عالمياً وغداة نهاية
الحرب العالمية الأولى وتأسيس منظمة عصبة الأمم واجه النظام الرأسمالي وعلى رأسه الولايات
المتحدة الأمريكية أزمة اقتصادية كبرى بلغت ذروتها سنة 1929م. أزمة انتقلت إلى العديد
من الدول الأوربية خاصة منها فرنسا وإنجلترا والمستعمرات التابعة لهما، لتراجع الطلب
في الدول الصناعية على المواد الأولية والفلاحية، أزمة مست الدول العربية لكن بدرجات
متفاوتة وقد أشار إلى ذلك الرحالة الجعيدي أثناء إقامته ببيروت، ذاكراً بأن الأسعار
و مدا خيل التجارة في تدهور(10)، خاصة في المدن المراسي المنفتحة على التجارة العالمية،
الأمر الذي فسح المجال في عودة التوتر من جديد إلى العلاقات الدولية وتزايد الأطماع
التوسعية.
عربياً وباختصار ساهمت
سياسة التتريك العثمانية ونزعتهم القومية المتعصبة في تنامي روح القومية العربية بالمشرق
العربي، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى شجعت إنجلترا العرب للثورة على الأتراك
مقابل وعود بإقامة دول عربية مستقلة، لاسيما مع شريف مكة الحسين بن علي الذي كان يرغب
في تولي الخلافة الإسلامية، فلم تكد تمضي ثلاثة أشهر على انطلاق الثورة من مكة حتى
أخضعت كل الحجاز لنفوذه، فكان أول من قام باستقلال العرب عن الترك وآخر من حكم مكة
من الأشراف الهاشميين. وفي توافق مع ذلك انطلق الإنجليز من مصر في اتجاه فلسطين وباقي
مدن الشام الساحلية، ثم دخلوا إلى بغداد 1917م، الأمر الذي دفع الأتراك إلى الاستسلام،
في وقت تنكرت إنجلترا لوعودها السابقة وقبلت بتقسيم العالم العربي مع فرنسا وفق اتفاقية
سايكس-بيكو، فبموجبها فصل لبنان عن سوريا ووضعهما تحت الانتداب الفرنسي، ووضع العراق
والأردن تحت الانتداب الإنجليزي مع الاعتراف بالشريف الحسين ملكاً على الحجاز، وكَرَدِّ
فعل شهدت منطقة الشرق الأوسط انتفاضات شعبية متلاحقة ضد التقسيم الاستعماري، وفي سنة
1930م اعترفت إنجلترا باستقلال العراق مع الإبقاء على المصالح الاقتصادية والقواعد
العسكرية.
أما بشبه الجزيرة
العربية فقد اعترفت إنجلترا سنة 1915م بحكم عبد العزيز بن سعود على نجد والإحساء، وأدى
انتشار روح الدعوة الوهابية بين القبائل العربية، إلي تكوين جيش قوي استطاع ضم المناطق
الداخلية بين 1921- 1922م، بعدها تمكن آل سعود من انتزاع مكة من الشريف الحسين ما بين
1924 و 1926م، الأمر الذي أعاد الأمن والاستقرار
للبقاع المقدسة بعد أن شهدت ردحاً من الزمن أحداثا متفرقة من السلب والنهب وانعدام
الطمأنينة.لكن آل سعود كانوا في حاجة إلى موارد مالية لبناء دولتهم ودلك قبيل تفجر
البترول في المنطقة.
ومن نتائج الحرب العالمية
الأولى كذلك وعد بلفور سنة 1917م، والذي اعتبر المؤشر الحقيقي على اتفاق مصالح الصهيونية
العالمية والاستعمار الإنجليزي على التخطيط لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وذلك
بتشجيع الهجرة اليهودية نحو فلسطين وتفويت مساحات شاسعة من الأراضي لهم مع حماية مصالحهم
الاقتصادية(11)، ومع بداية الثلاثينات اضطر العرب إلى المقاومة ضد تصلب سلطات الانتداب
التي كانت تلجأ إلى طمأنة الفلسطينيين بوعود كاذبة، في وقت عمدت إلى تدريب وتسليح الجناح
العسكري للمنظمة الصهيونية تمهيداً لقيام دولة إسرائيل.
وأشير في الأخير بأن
جريدة السعادة توقفت عن الصدور بشكل نهائي وتلقائي مباشرة بعد حصول المغرب على استقلاله
سنة 1956م(12).
خاتمة التقديم
عموماً الرحلات الحجازية
التي دونت فيما قبل فرض الحماية على المغرب سنة 1912م، تغلب على معظمها ظاهرة الإتباع
وكثرة النقول وتكرار ملامح من الماضي الثقافي والحضاري الإسلامي، وقت كانت الأحوال
في البلاد العربية متشابهة إلى حد كبير والرحالة لا يشعر بالغربة في سفره، لكن الأوضاع
تغيرت بشكل كبير مع مطلع القرن العشرين، فرضت أثناءها قوانين جديدة لم تكن معهودة من
قبل وأصبح التنقل إلى الحج مقتصراً على ركوب البواخر فقط، فكان من الضروري على رحالتنا
في هاته الفترة من مواجهة مشاكل وصعوبات جديدة، وأصبح من الضروري إطلاع المغاربة عليها
ليكونوا على بال بالصعوبات والمشاكل التي قد يواجهونها في تنقلهم وهم في طريقهم لأداء
فريضة الحج وكيفية تجاوزها أو تفاديها، لهذا فرحلة الجعيدي غنية بالنصائح والمواعظ
والتوجيهات النيرة التي يجب على المغاربة المقبلين على السفر معرفتها، مثلاً الابتعاد
عن التعامل مع السماسرة بالمراسي لرغبتهم في الربح الوافر دون مراعاة لمصالح الحجاج.
كما دعا الحجاج الميسورين إلى عدم البخل بالمال وذلك بالركوب في الدرجات الدنيا في
البواخر طمعاًَ في رخص ثمنها، منبهاً إلى انعدام الخدمات وكثرة الازدحام والعفونات
وقلة الأكل وغير ذلك، كما تحدث على أحوال الحواضر والمحطات الطرقية وأثمنة الركوب والفنادق
والمطاعم.
ومن جانب آخر رصد
مستوى التعليم والإصلاح والتطور ببلدان مصر والحجاز ولبنان وسوريا وفلسطين واصفاً أحوالها
الاجتماعية والمناخية، مع اهتمام بجمالية الصورة والمكان والإنسان وكل الفضاءات الطبيعية
من أنهار وجنان وجبال، وذلك بأسلوب سلس ولطيف يعتمد السرعة في الملاحظة والبديهة في
الرأي وحالة قرائه الروحية أقرب إلى أسلوب الصحافة منها إلى الأسلوب الأدبي الكلاسيكي.
رحلته تزخر بالكثير من المعلومات والإحصائيات المفيدة عن المدن التي زارها بداية من
مرسيليا إلى الإسكندرية والقاهرة والسويس وجبل الطور والقصير والوجه والينبوع وجدة،
وبعد إطلاع القراء على كيفية قضاء مناسك الحج بمكة والمدينة وجدة وعرفة ومِنى والمزدلفة
والصفا والمروة، نبههم إلى الاحتراس لاختيار مطوفين وقضايا صرف العملات الأجنبية وكيفية
زيارة الأضرحة وفق الرؤيا الوهابية وغير ذلك. وأثناء عودته على مدن الشام انطلاقاً
من بيروت التي حل بها بحراً إلى القدس مروراً عبر دمشق والقنيطرة وطبرية والناصرية
وجبل الشيخ وجنين ونابلس والخليل وحيفا وعكا وغيرها من المدن والقرى الشامية.
ومن حسن الصدف نجد
أمير البيان الداعية الكبير شكيب أرسلان، وبعد أن ابتعد عن تركيا ونخبتها المتعصبة
التي أخذت تتخلى عن العرب والعربية، سافر إلى برلين ثم استقر بجنيف سنة 1922م مدافعاً
عن القضايا المغربية أمام جمعية عصبة الأمم. وفي سنة 1929م شد الرحال إلى بلاد الحجاز
بغرض أداء فريضة الحج، وحتى لا تفته هذه الفرصة التي انتظرها سنوات قام بتدوين رحلته
الحجازية عنوانها "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس المطاف" رحلة
ألقت الضوء على تاريخ بلاد الحجاز وجغرافيتها وخيراتها مع استدعاء كل ما في مخيلته
الأدبية المرموقة من صور ومشاهد وانطباعات عنها(13). وسنة بعد رحلته هاته كتب إدريس
الجعيدي رحلته الحجازية سنة 1930م كتكملة واستمرارية، وفي منتدى الحج الذي يشرف عليه
ملوك آل سعود كانت تتوطد أواصر التعارف والتعاون والنضال ما بين المفكرين والعلماء
العرب والمسلمين، فالأمير شكيب أرسلان أثناء رحلته إلى بلاد الأندلس سنة 1930م عرج
على مدن شمال المغرب كضيف على رجال الحركة الوطنية، في وقت كان فيه رجال الفكر ببلاد
الشام يرحبون بإدريس الجعيدي ورفاقه المغاربة.
د. عز المغرب معنينو
- المغرب
ندوة الخرطوم
2005
السعودية